"صديقي...
... قضيت البارحة ساعتين مع بتهوفن، السمفونية السابعة والثالثة. اننا بحاجة شديدة إلى إعادة الثقة في نفوسنا وإحياء الأمل والإرادة. لقد شعرت في اللحن الرابع من السابعة أن قلبي جريح، وأنني أحمل فوق ما يحمل البشر جميعاً من آلام، ولكنني مع ذلك كنت أشعر، في ظلمة هذا الألم، انني كان بشري، من مقومات حياته ووجوده، الألم النبيل، وشعرت بقوة خفية تنعش نفسي وتعيد إلى دمي حرارته... وفي الثالثة أسعف نفسي 'اللحن الجنائزي' بآمال هائلة. ان بتهوفن وحده يمثل حقيقة الروح الجرمانية لأنه يبني تصوره من صخور البراكين. أما فاغنر فهو ثرثار جبار يجاهد للوصول إلى حقيقة يرتكز عليها، لكنه لم يصل، ولذلك تصرح نفسه باستمرار.
وسمعت اليوم سمفونيتين لتشايكوفسكي وهو الي كنت أحبه من القديم: السادسة والخامسة. انه آسيوي رغم كل ما فيه من نظلم وابداع، انه يختلف عن بتهوفن كل الاختلاف على الرغم من أنهما يبدوان موسيقياً واحداً، في روحة الألحان... تشايكوفسكي يقفز في أول نغم إلى ذلك العالم المجهول المرهف الذي ينذر بالدموع والتأثر والصوفية واليأس... أما بتهوفن، فانه يخلق عالماً آخر، من نفسه، عالماً طاغياً يستطيع أن يعرفه او يكتشفه، ولذلك نستطيع أن نلخص موسيقاه بأنها 'ارادة الحياة' بينما نرى في تشايكوفسكي 'حنيناً إلى حياة'...
سمعته اليوم، فامتلكتني رغبة في أيام الطفولة، وحنين إلى منزلنا القديم والكوخ الذي يواجهه، وأسراب القرويين الذين يحومون حوله في أيام الأعياد... حننت إلى تلك السماء القديمة والغيوم التي مرت عليها لحطات لا تقطر، وبقيت في نفسي إلى الأبد، وإلى الطريق القروي الضيق الذي كنت أسلكه مع أبي قبيل الفجر ونجن ذاهبان إلى إحدى القرى..
وقلت لماذا أشتاق إلى الماضي، الماضي الميت، لماذا تغمرني ذكرياته القديمة سعادة وارتعاشاً عميقاً، لماذا لا أفكر بالمستقبل؟ ويخيل إلي أن الأنغام تجيبني: الماضي، لقد ساهمت في خلقه، بل أنت الذي خلقته. أما المستقبل فهو ظلام لأنك لم تعرفه بعد..."
دمشق 1946/09/18
(رسائل)
(رسائل)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق