15.8.15

آن لقضية الشعب ان تتجسم

عبد القادر ارناؤوط
   


     تنظيم اشتراكي ينال فيه كل مواطن حقه الطبيعي بالحياة والعمل، ويتم بانقلاب اجتماعي شامل يحطم فيه التفاوت الطبقي، وتخنق بذور الاقطاعية والرأسمالية وتوزع ثورة البلاد على جميع المواطنين، وتسخر المرافق العامة لمصلحة الجميع ويؤمن مستقبل جميع المواطنين.

     حياة عربية يقف فيها العرب في جميع أقطارهم كياناً واحداً له قوته وحياته ويشعر فيه كل مواطن بانتسابه الى أمة حية قادرة على الابداع تتفتح في ظلها نفسه ويساهم في تقدم الحياة الانسانية وإغنائها.
مجتمع تقدمي تدمر فيه القيم الرجعية ويؤمن ابناؤه بالتطور والعلم ويعتبر التجدد الدائم والحيوية والجمال والفن والحرية قيماً حية لا حياة للشعي من دونها.
     وطن حر تصان فيه كرامة الافراد ويمهد لهم التمتع بجميع حرياتهم التي هي حق مقدس وشرط جوهري لحياتهم.
     هذه هي بكلمة موجزة قضية الشعب العربي في جميع أقطاره، وهي وحدها تنطوي على المعنى الحقيقي لاحياء الشعب العربي وإنقاذه. فمهما حاول الناس الابتعاد عنها واعتبارها مثلا عليا صعبة التحقيق، فانها تفرض نفسها فرضاً على وضع العرب اليوم، وتتوضح يوما بعد يوم لآنها ثمرة آلاف التجارب المريرة التي مر بها العرب خلال أعوام طوال  قدموا فيها من الضحايا وعاني فيها الشعب من الآلام ما جعله أقرب الى شعب مشرد لا وطن له ولا أمل.
     وإذا جاز لنا اعتبار تجارب الانسان طريقة لمعرفة نفسه ونضوج مشاكله الحقيقية، فان التجارب التي مر بها العرب تعتبر أقوى من علمهم حقيقة قضيتهم هذه.
     أولى هذه التجارب كانت تجربة الحرية. منذ استيقظ العرب ومدافع الاستعمار تدمر منازلهم وتكم منهم الافواه وتعلمهم حياة العبودية والخنوع، فشعروا بقيمة الحرية وتعلموا كيف يناضل الانسان في سبيلها. ناضلوا طويلا في سبيل التحرر من الاستعمار ولا يزالون.
     وعرف الشعب بعد ذلك تجربة الاشتراكية، فلم يكد ينظر الى تفسه حتى رأى تحكم الاقطاعيين والاثرياء بمصيره ومصير ابنائه. ولمس بنفسه حرمانه من العمل ومما يسد به رمقه ومن الحياة الانسانية في ظل مجتمع فاسد يملك ثروته افراد ى تربطهم بابناء وطنهم اية رابطة. فتعلم ان النضال من اجل الاشتراكية انما هو نضال من اجل البقاء قبل كل شىء.
      وكانت بعد ذلك تجربة العروبة، فعرف الشعب ان ضياع حريته وانهيار حياته انما هما من آثار تفككه وتجزئة وطنه، وتحكم الدخلاء عليه بمقدراته. فعلم امام القوى القومية المتكتلة في العالم، أن شعبا لا يلم شمله ولا يستبعد ابناؤه الرابطة الحيوية العريقة التي تجعلهم كياناً واحداً يضمه وطن واحد، إنما هو شعب كتب عليه الفناء. وتعلم أن الوحدة التي هي تحقيق لارادة العروبة هي الشرط الاول لسلامة العرب وحفظ وجودهم.
      ومن الحوادث اليومية التي يتمتع فيها العرب بحضارة الغرب دون ان يساهموا فيها ويرون تقدم العالم وهم يتخبطون في بؤسهم كمن وقع في شراك، لمس الشعب عناصر حيوية المدنية والتقدم ورأى ان لا سبيل الى انقاذه الا اذا تمتع بروح جديدة تحرر عقله وحواسه وتوقظ فيه انسانية مؤمنة بقدرة الانسان على بناء حياته والتقدم بها والتسامي بقيمها. فكان الشعور بفساد الاستقرار والرجعية وكانت تجربة التقدمية.
     هذه صورة أولية عن قضية الشعب العربي بأسره. ولعل الشعور الذي تركته تجارب هذا الشعب في نفسه هو سبب الاضطراب والقلق اللذين يعانيهما دون ان يعرف بوضوح ما لهما من دوافع.
وما نجنيه من كل هذا أن النضال من أجل هذه القضية هو أصعب بكثير مما نتصور، وأن تجسيم هذه القضية بشكلها الواضح الجرىء الذي لا يعرف الخوف، هو النضال الحقيقي المنتج في سبيلها، ذلك لأنها عندما تتجسم لا بد ان تتبناها طليعة مؤمنة نذرت نفوسها في سبيل ذلك، لآن لكل قضية حية أناسا يحملونها عندما تختمر وتنضج ويضحون من أجلها لآنها قدر عليهم. وقد آن ان نعلم أن قضيتنا قد اختمرت وأن مرارة الكوارث والآلام التي مر بها شعبنا كان كافية لآن تنضجها.
      ما من قوة في العمل تستطيع ان تمنع الثمرة اليانعة من السقوط عندما يكتمل نضوجها، لآن قدرها الطبيعي إذ ذاك يكون معها. وما من صعوبة تحول دون تحقيق قضية شعب عندما تنضج إلا التخاذل والجبن.
فلنتعلم من الطبيعة. وليجرؤ المؤمنون بحق وطنهم بالحياة على أن يقفوا أمام الكوارث وأن يجسموا قضية شعبهم، في قوة، فلن يكون لهم إلا الظفر لآن القدر معهم.

(1949)

ليست هناك تعليقات: