23.7.15

في العقلية الجديدة

  


سهيلة بلبحار

 

   إن ابرز ما يميز المرحلة الراهنة  تاريخ النضال العربي هو ما يمثله هذا النضال من صراع عنيف بين عقليتين متباينتين، تنزع الاولى الى الحقيقة والصراحة، وتتوسل الثانية بالاستمرار في الاكاذيب. فإلى جانب معارك السلاح التي يخوضها الشعب العربي في ميادين كثيرةن أجل حريته ووحدته، يبدو ذلك الصراع أعمق أثرا في حياته القومية وأشد خطورة.

   لقد عرف المجتمع العربي أجيالا مديدة من حياة النفاق والتضليل، لم تترك مظهرا من مظاهر الحياة العربية إلا وتركت فيه شيئا من الفساد والرياء. ولم يكن الكذب السياسي الذي كشف في السنوات الاخيرة عن تآمر الحكام الرجعيين والطبق الانتهازية من الساسة إلا بداية للصراع الحقيقي. فليست السياسة كل شىء في حياة الامة. وما تبرزه الاحداث السياسية من تناقضات، إنما يشير الى حقائق أشد خطرا في طبيعة المجتمع الذي تحدث فيه. وإذا كان اهذه الاحداث من عنى في هذا المجال، فهة فيما ينوي عليه من جذور اجتماعية عميقة تبرر تناقضاتها. والنضال التحرري الحق لا يقتصر على مجابهة الاحداث با إنه يقوم على الجرأة في اكتشاف هذه الجذور واقتلاع الفاسد منها، دون اللجوء الى اي تبرير تقتضيه مرحلة معينة أو يفرضه حل وسط.فلا سبيل للانتظار في معركة الحقيقة والكلمات الصريحة يجب ان تقال في كل حين.

   وتحتل معركة التقاليد مكانة أولى في هذا الصراع. فالعقلية تنشأ من الاعراف والاساليب التي يعتاد عليها الانسان في حياته وتمليها عليه وجهة نظر معينة تفرضها بيئة او طبقة. وقد يتاح له ان يترد على التقاليد السائدة ويتحرر من بيئته او طبقته في بعض التصرفات. غير ان تحرر العقلية من اصعب الامور، لان مثل هذا التحرر يقتضي كفاحاً شاقاً لا يقوى عليه الفرد وحده مهما يكن قويا. انه من صنع جيل باسره. ولكي تكون هناك عقلية جديدة يجب ان يكون ثمة جيل جديد يعبر عنها بحياته وسلوكه ويتحدى بها الدعائم الاجتماعية المتصلبة التي تدعم العقلية الرجعية القديمة. وليست العقلية الجديدة مجرد افكار ووجهات نظر تناقض ما هو مألوف من التقاليد، بل هي ممارسة لاساليب جديدة في الحياة، ومن ثم فهي ترمز الى التحرر، وتعتمد قبل كل شىء على تعرية الواقع الذي تتمرد عليه وعلى الكشف الجرىء عن مظاهر الرياء والكذب فيه.

   وعندما ر يتاح للجيل الجديد ان يمارس في جرأة ما يدعو اليه من الاشياء الجديدة، فان ذلك يعني ان العقلية الجديدة لم تتكون بعد وان الصراع ما يوال في بدايته بين الصدق والنفاق. وكثيراً ما تلتبس في هذا الصراع معاني الصدق والنفاق معاً، فيرتدي دعاة التمرد والتجديد ثوب التضليل، ويتذرعون بالاساليب الرجعية الكاذبة، وهم يبررون ذلك بالرغبة في الوصول الى ما يريدون معتبرين النجاح بداية التحرر. والواقع انهم بذلك يدعمون العقلية القديمة التي تعتمد على الكذب، وذلك ما يحدث غالبا للذين لا يستطيعون الانفصال عن طبقتهم الاجتماعية او التحرر من نظرة المجتمع المألوفة الى قيم الاشياء. منهم الساسة الذين يرون الاساليب الرجعية القديمة قدراً على كل عمل سياسي، والمفكرون الذين لا يعنيهم من الفكر إلا ما يمنحهم من مكاسب في المجتمع الذي يزعمون الثورة عليه.

   ويبدو هذا الصراع بصورة اوضح في حياة الافراد. فكثيرا ما تقتصر الدعوة الى التحرر على الموقف السلبي الذي يقفه الفرد من تقاليد بيئته، في حين يبقى كل ما هو ايجابي في سلوكه مرتبطاً أشد الارتباط بالعقلية التي ورثها عن هذه البيئة.

   لكي يتاح للعقلية الجديدة شىء من الانتصار، يجب ان يتحرر دعاتها من كل بيئة ملوثة، وينفضوا عنهم تراب الاخلاق العتيقة... أن يقفوا عراة النفس في مجتمع أورثت المخاوف وجوه ابنائه كل قناع كاذب

(1958)

ليست هناك تعليقات: