26.7.15

السنوات المجهولة من حياة شكسبير


    
اقام سكان ستانفورد على الآفون في بريطانيا مهرجاناً كبيراً إحياءً لذكرى الشاعر وليام شكسبير الذي ولد في هذه المدينة عام 1564. ومثلت في هذا المهرجان بعض مسرحياته المشهورة، كما أقيم معرض في المنزل الذي ولد فيه، ضم جميع آثاره ومخطوطاته.

   وعلى الرغم من أن شكسبير يعتبر من أعظم شعراء العالم وأبعدهم أثرا وشهرة، فان الغموض ما يزال يكتنف الكثير من جوانب حياته، كما أن قيمة اثاره بقيت موضع تساؤل ونقاش خلال عدة قرون.
   وينحدر شكسبير من أسرة ريفية، غير أن اباه جون شكسبير استطاع أن يجمع ثروة صغيرة أتاحت له أن يتخلى عن العمل في الحقول، وأن ينضم الى الطبقة المتوسطة في مدينة ستانفورد، ويتزوج ابنة أحد كبار الملاكين.
   ويبدو أنه قوي الشخصية بعيد الطموح، فقد استطاع خلال فترة وجيزة أن يصبح عمدة المدينة.
   وكان وليام شكسبير أول ابنائه الثمانية ومن ثم فقد نال من أبويه أكبر قسط من العناية. وكانت أمه ماري آردن تشرف بنفسها على تربيته وتثقيفه. وأرسل الى المدرسة في الثامنة من عمره. ولكنه اضطر الى الانقطاع عن الدراسة قبل ان يبلغ الرابعة عشرة من عمره. وقد بدأ الفقر يحوم حول أسرته الكبيرة وكان أبوه قد أثقل بالديون وسجن. وكان على شكسبير أن يعمل من أجل حياة الاسرة. ولا يعرف اي عمل امتهن اذ ذاك. غير أنه كان في هذه الفترة كثير التنقل في المزارع المجاورة. ولا يذكر أنه كان يميل الى القراءة بل كان مولعاً بسماع الحكايات والأقاصيص من أفوه الناس.
   ولم يكد يبلغ الثامنة من عمره حتى كان حديث الناس جميعاً في المنطقة بسبب فضيحة غرامية. فقد تعرف على امرأة تتجاوز السادسة والعشرين من عمرها هي آن هاثواي وتزوج بها سراً أو أرغم على ذلك لآنها ولدت بنتا بعد ستة أشهر من الزواج. يقال بأن شكسبير كا يحبها حقاً، أو أنه اقترن بها خلاصاً من الفقر الذي يعانيه. فقد كانت ابنة لآحد المزارعين الآثرياء في شوكثري – وهي قرية تجاور ستانفورد. ولكن شكسبير لم يطق حياة الأسرة طويلاً على الرغم من أنه أصبح أباً لثلاثة أولاد. ويرجح أن علاقته بزوجته لم تكن على النحو الذي يطمئن إليه. فقد كانت امرأة ضيقة التفكير، جامدة العاطفة، ولم يكن لها من أثر في حياة شكسبير الشاب، ولم يذكرها فيما بعد حتى في وصيته.
   وقطع شكسبير صلته بأسرته وذهب الى لندن، وكان في الثامنة والعشرين من عمره. ومرت خمس سنوات دون ان يعرف عنه شيء. يقال بانه قام برحلة إلى ايطاليا او اتصال باحدى الفرق التمثيلية وظهر على المسرح، او اشتغل خادماً في أمكنة عديدة. واصبح في آخر الامر حارساً لخيول الرواد في أحد المسارح. 
   ويذكر مؤرخو حياته أنه بدأ في هذه الفترة المجهولة بتأليف المسرحيات، فكتب مسرحية تاريخية عن هنري السادس وذلك في عام 1589، وكان في الخامسة والعشرين. ولا يعرف كيف أتيح له أن يعمد الى التأليف على هذا النحو المفاجىء، فقد كان قبل ذلك قليل الثقافة بعيداً عن أجواء الآدب والشعر. ومن ثم فقد شك كثيرون في نسبة هذه المؤلفات الرائعة إليه. غير ان غموض حياته في هذه الفترة يزيل الكثير من هذا الشك. فمن المحتمل أن يكون قد قضى هذه السنوات في عزلة أتاحت له اختيار مصيره الجديد، أن يكون شاعراً.
   وثمة مشكلة أخرى هي زعم بعض مؤرخي حياته انه مات عام 1600 في السادسة والثلاثين من عمره. ولم يكن قد الف إلا عددا من المسرحيات منها روميو وجولييت وتاجر البندقية وحلم ليلة صيف وكثير من الضوضاء من اجل لا شىء. والمعروف أن أشهر مؤلفاته لا سيما مآسي هاملت وماكبث وعطيل والملك لير ويوليوس قيصر وغيرها قد ظهرت بعد هذا التاريخ. ولكن هذا الزعم لا يعتمد على أساس من اليقين. لأن هناك صلة وثيقة في الروح والأسلوب بين جميع مؤلفات شكسبير قبل عام 1600 وبعده. كما أن القصائد الصغيرة التي استمر على كتابتها طوال حياته تدل على أن جميع هذه الآثار هي من إبداع عبقرية واحدة.
   والواقع أن عظمة شكسبير ترجع الى الاصالة التي تميز جميع مؤلفاته، وتلقي عليها طابعاً خاصاً يرجع إلى شخصية واحدة تتصف بعمق التجربة وبعد التفكير، وبموهبة شعرية فذة تجعل أبسط الكلمات والصور زاخرة بمرارة الحياة وقوة العاطفة. وعلى الرغم من أن شكسبير يعتبر شاعراً جامح الخيال، فان النماذج البشرية التي صورها في آثاره، تحمل من المعاني الانسانية ما يجعلها مصدراً غنياً لفهم الحياة في كل عصر وجيل. وذلك هو سرّ خلود هذا الشاعر.
   وقد مات شكسبير في 1616 وكانت السنوات الاخيرة من حياته هادئة تخيم عليها أحزان العزلة. ولم يكن له إلا قلة من المعارف والاصدقاء.

(1958)

ليست هناك تعليقات: