![]() |
أدهم اسماعيل |
والثقافة
هي التي تهب الانسان هذه القدرة لانها وحدها القادرة على توسيع آفاق الحياة امامه،
وعلى إلهامه المثل العليا التي يرتبط بها كل تقدم وتجديد. وبمقدار ما تؤثر الثقافة
في حياة الانسان وتتحول فيها الافكار الجديدة الى سلوك وعمل، يكون الانسان تقدميا
يقف امام جميع الظروف الراهنة موقف المتمرد المسيطر، لآن كل واقع مهما يكن قويا،
فهو يحفز الفكر على تصور شكل افضل للمجتمع. وبهذا الموقف يحمل المجتمع الصفة
التقدمية، والمقياس الصحيح للتقدمية في المجتمع هو مقدار ما تتكون فيه من الافكار
الداعية الى الثورة والتجديد، ومدى ما تتفاعل فيه هذه الافكار مع الواقع وتهيىء
السبل لتبديله.
ومن
الواضح ان المبرر الوحيد للدعوة الى الثورة هو ارتباط الانسان بالحقيقة التي تبدو
له في الشعارات التقدمية التي يؤمن بها. وليست التقدمية في الواقع إلا مظهراً
لنضال الانسان من اجل الحقيقة، لانها تقوم على ادانة كل شكل قديم وتعتبره كاذباً
يعرقل نمو الحياة وازدهارها وينبغي تهديمه والتحرر منه. وعلى هذا النحو فان أقوى
مظهر للتقدمية في الحياة العربية هو الكفاح الثوري الذي يخوضه الشعب العربي، لان
هذا الكفاح قد بدأ يرفض الاشكال الزائفة التي تثقل المجتمع العربي، وتقتل فيه كل
نزعة الى الحياة الانسانية الحقة، يرفض العبودية من اجل الحرية، ويكافح البؤس
والظلم من أجل الفرح والعدالة ويتنكر للتجزئة والضعف من أجل الوحدة القومية
والقوة.
واذا
كان لهذا الكفاح القومي ان يتذرع بعناصر كثيرة في الواقع، فيعتمد تارة على التطور
الطبيعي للمجتمع، بيقر مرحلة سياسية او اقتصادية راهنة، الى ان يستكمل شروط
انتصاره، فان الافكار التقدمية التي ينطوي عليها لا تستطيع ان تتخلى عن روح
الثورة، الا اذا فقدت نزعتها الى التقدم والحياة. ومثل هذا التخلي يفسر العقلية
الرجعية الى حد بعيد، فالافكار الرجعية في هذا المجال هي التي تنكر اثر الثقافة في
تجديد المجتمع وتبديل شروط الحياة فيه. وعندما يبدو لها التطور قدراً لا مقر منه،
فانها تحاول ان تجد لكل مرحلة من مراحل هذا التطور مبرراتها المنطقية، دون ان تجد
اي مبرر للثورة عليها، والنضال لتحقيق صورة جديدة للمجتمع لا يحتملها التطور
الطبيعي. وكثيرا ما نطلق على مثل هذا التسليم بالتطور صفة "المحافظة" او
"الايمان بالاصلاح"، والواقع انه من اشد اشكال الرجعية اثرا في عرقلة
التقدم لان التقدمية الحقة تصدر عن ايمان عميق بالحقيقة، وتعتبر كل ما سواه نوعا
من الزيف الباطل وسبيل في الايمان للمهادنة والانتظار.
وبهذا
المعني يمكن ان تأخذ الرجعية وجهات عديدة ف. فقد تبدو في السياسة مثلا في
الاستسلام للظروف وتبرير كل وضع راهن، وبذلك هي تقام بصورة طبيعية كل نزع تحررية،
لان نزعة من هذا النوع تدين الظروف وترفضها وتكافح لخلق شروط جديدة يقتضيها
الايمان بوجهة نظر جديدة في الحياة السياسية تسعى الى تحقيقها. وقد تكون الرجعية
في العادات والتقاليد، عندها يفقد المجتمع كل قدرة على التجدد والابداع في نمط
الحياة. غير ان اقسى صورة للرجعية هي التي تتمثل في اقصاء الثقافة والفكر عن
الحياة عندما تصبح الافكار كلمات جوفاء يعرفها الناس دون ان يتفاعلوا معها، ويجددوا
نظرتهم الى الاشياء واساليبهم في الحياة ويستمدوا منه النزوع الدائم الى الجدة
والتقدم.
(1957)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق