1
يقول
ابن دريد في نهاية مقصورته
فإن
أمُت فقد تناهت لذتي وكل شىء بلغ
الحدَّ انتهى
ولو
أتيح لطرفة أن يتمثل بكلمة وهو في طريقه الى البحرين لما وجد أصدق من هذا البيت
تعبيرا عن شعوره في ذلك الحين.
لم
يكن طرفة قد انتهى لانه كان في ريعان شبابه، ولكنه كان يشعر شعوراً عميقاً بأن
وجوده على الارض قد اصبح عبئا ثقيلا عليه بعد أن هدرت كرامته وبعد ان اراد عمرو بن
هند أن يكبله بالاغلال ويشعره بانه تحت رحمته، بانه لم يعد حراً. وفقدان الحرية
عند الرجل النبيل معناه النهاية.
كان
يعلم انه سائر الى الموت وان الرسالة التي يحملها الى حاكم البحرين لم تكن إلا
أمرا من عمرو بن هند بقتله لآنه تحدى جبروت هذا الملك الطاغية، ولم يتورع عن ان
يهجوه ويقول شعرا بأخته.
وعندما
طلب إليه خاله المتلمس وهو مثله يحمل صحيفة موته، أن ينجوا بالفرار رفض وعزم على
السير حتى النهاية.
أيهرب
من وجه عمرو بن هند خوفاً من الموت؟ وما قيمة الحياة إذا عاش مطارداً بعد ذلك؟
لقد
كانت حياته فيضاً من الشجاعة والاباء، وهو لا يريد ان يلوثها بعار الخوف من الموت.
لقد عرف الحياة حق المعرفة، وتمتع بها كما أراد وترك فيها من شعره أجمل الآثار،
فعلام يخاف؟
إن
الذين حرموا من الحياة هم وحدهم يخافون من الموت، لآنهم سيموتون ظماء جياعا. أما
الذين عاشوا بقلبهم ودمهم، أما الذين أخذوا كل شىء فانهم يتقبلون الموت في شجاعة
وجرأة، كما لو أنه ثمرة شهية.. إنهم يصنعون موتهم بأيديهم كما لو أنه تعبير صادق
عن تكامل حياتهم وازدهار وجوههم.
2
ولاذ
المتلمس بالفرار. أما طرفة فقد استمر في طريقه، كجمرة حية لا تخمد بين أمواج من
دخان الشك واليقين. سيان لديه: أكان الموت مصيره أم الجاه الذي وعده به الملك
كاذباً. لقد أصبح موته ملك يديه، كما كانت حياته، وما يهمه الناس بعد ذلك؟
الناس..
لقد كان الناس أبداً خصوماً له لآنه كان أبداً يحاول تجديد الحياة واعطاءها شكلاً
جميلاً رائعاً غير الاشكال الجامدة التي ألفوها. عندما كان صغيراً هاجمه الناس
لانه كان كريماً متلافاً للمال، فحاولوا أن يسلبوه ما يملك خوفاً من ان يهبه في
ساعة نشوة واعتزاز.
ومن
أجل هذا اضطهده أعمامه كما اضطهدوا أمه وأخته ليأخذوا ثروة الاسرة الصغيرة. وكان
طرفة صغيراً ولكنه كان أقوى منهم، لقد كان شاعراً سليط اللسان. وخوفاً من هذا
السلاح، أذعنوا وأعادوا إليه مال أبيه وهو فتى غرير.
وسرعان
ما أنفق المال. لقد انصرف الى الحياة يمتع نفسه بكل ما فيها من لذة وسعادة. لقد
وجد المال ليمهد سبيلاً لجني ثمرات الحياة، لا ليخزن ويدفن. إن الحياة أثمن من كل
شىء وعلى الانسان ان يضحي بكل شىء لكي يعيش كما يريد، بملء حريته. إن هذا وحده
يتيح لما فيه من فضيلة ونبل أن يتفتح وينمو. وهل من هدف أسمى للانسان من أن يضيف
ما بنفسه الى الحياة؟ من أن تتفتح إمكانياته الخصبة لتؤمن تقدم الانسان وازدهار
حياته؟
3
اما
وقد قدم طرفة للعالم فيض نفسه، فان الموت قد أصبح له كرشفة من كأس. لقد أعطى الناس
فلسلفة للحياة. فلسلفة أصيلة عميقة، تغنى بها بأشعار جميلة رائعة، وان تفيض النفس
بالشعر معناه أن تقدم أجمل ما فيها.
وهو
الآن، بين أن يختار إكليلا وردياً عبقاً يتوج به حياته فيلبث حتى النهاية، وبين ان
يهرب من وجه الموت كما يهرب الجبان، فيلطخ خياته النبيلة بعار الهزيمة.
لقد
كان صادقاً طوال حياته. كان جزءا من الحياة الفطرية البسيطة التي لا تعرف طلاء
الخيال وأكاذيب الادعاء، فهل يخون نفسه وينكر فطرته؟
إن
الموت أهون عليه من ذلك، ها هو ذا يقدم على الموت لئلا يقال ان طرفة قال ما لم
يفعل، إنه خشي عمرو بن هند وإن في الارض من هو أكثر شجاعة منه واستهتاراً بالموت.
هكذا
اراد أن يعلم الناس، فليبدأ بنفسه.
4
اما
تعاليمه فان الناس ليجدونها في كل مكان
"ان
الموت يقترب منا يوماً بعد يوم،
فما
لنا لا نقبل على الحياة في إخلاص وشجاعة
فلننفق
أعوام حياتنا وكل ما نملك من دون حساب
مخلصين
لما نشعر به من عواطف ورغائب
طليقين
من كل قيد
فلنتمتع
بالحياة
ثلاث
يبررن وجودنا على الارض
أن
نخوض غمرات الحروب دون وجل
ان
نرتشف كؤوس الحياة
مترعة
بالخمر والشعر والغناء
وأن
نعرف الارتواء من ساعات الحب الساحرة
فالويل
لمن يموت ظامئا
لأن
الموت سوف يكون له فاجعة مخيفة ملأى بالآلام والحسرات
فلتكن
لنا الحياة، لكي نستطيع ان نجعل الموت، الذي لا مفر منه
مصيراً
حبيباً إلينا.. أن نجعله خاتمة جميلة لحياتنا"
5
ولكنه
سيفقد حياته الى الابد. سيفقد عشرات من السنين لن تكون له إلا ينابيع ثرة من
السعادة والغبظة والمتعة. وأن يفقد شاب في العشرين حياته ليس أمراً سهلاً بل مأساة
فاجعة. فهل كان يؤمن طرفة بأن هناك ما هو أثمن من الحياة نفسها؟
أجل
هناك نبل الحياة. إن الحياة تقدم لنا أبدا صورا جميلة سامية عنها، كثيرا ما نسميها
"قيما" ومثلا عليا. ومن أجل صيانة هذه الصور النبيلة، يجب على الانسان
ان يصحي بكل شىء، حتى بحياته الراهنة.
على
هذا النحو يقبل البطل على أرض الموت، راضياً مغتبطاً بمصيره الدامي. إنه زائل، أما
المثل الأعلى فهو ابداً حي. أن حياته رغم كل ما تحمل من قدسية وغنى ليست إلا شيئا
عابراً أمام قيم الحياة الانسانية وصورها المثلى، لآن حياة الاجيال القادمة
وازدهارها وتسميها ستكون ثمرة لهذه القيم. ولذا فلا تقدم إلا حيث تعيش القيم والا
قيم إلا حيث يحمل همها أبطال ومعلمون وقادة شعوب.
وأي
مصير كان ينتظر الانسانية لولا هذه المشاغل الحية التي نرمز اليها بالقيم ونسميها
الحرية والكرامة وحياة الامة والوطن والتقدم وغير ذلك؟
وما
دامت الحياة النبيلة هي الغاية، الحياة التي تحمل بذور التقدم والانطلاق، فمن
السهل ان يضحي الانسان الحي بحياته في سبيل هذه الغاية.
وطرفة
الذي عاش جانبا من قيم الحياة في كرمه وشجاعته وبطولته وشعره، يرى نفسه الآن أمام
تضحية جديدة يجب ان يقدم عليها. يجب أن يصون الكرامة، أن يصون هذه القيمة
الانسانية النبيلة التي هي وحدها الشرق الحقيقي لحرية الانسان من استعباد الآخرين
وانطلاقه ابداً الى آفاق جديدة وأشكال مثلى لحياته وحياة مجتمعه.
وقد
قال أعرابي للص الذي سرق جواده "لا تخبر أحدا بذلك لئلا يضيع عرفان الجميل
بين الناس"، لأن خسارة الجواد لن تصيب إلا الاعرابي، أما خسارة النبل والكرم
فهي تلحق بجميع الناس.
وإذا
ما ضحى طرفة الشاب بكل ما ينتظره في السنين المقبلة من متع الحياة، فما ذلك إلا
لآنه أحب الحياة حباً حقيقياً وآثر إكليل الشوك لنفسه على ان يصمها العار. وما
أحوج الحياة إلا من يشقون لابنائها طريق السلامة والتقدم والتسامي. وما أحوج الشعب
الذي فقد حريته وحياته وكرامته لاناس يقتلون في نفوسهم كل شىء ليجعلوا من الحرية
والحياة والكرامة أشياء تعيش على الارض ونتير سبل الآخرين.
6
ووصل
طرفة الى البحين فسلم الرسالة للحاكم في طمأنينة وتفاؤل
وقال
الحاكم: "إن فيها أمراً بقتلك"
فقال
طرفة في سخرية "إفعل ما أمرت به"
فأشفق
الحاكم على مصير هذا الشاعر الشاب ومهد له سبيل الفرار. ولكن طرفة رفض ليعلم ابن
هند أن طرفة أقوى منه مهما أوتي من سلطان. إن إرادة طرفة لآقوى من الموت.
ويوضع
في السجن، فيغضب قومه ويحاولون انقاذه، ولكنه يرد كل محاولة. إن أمامه فرصة ثمينة
لآن يموت بملء حريته، لآن يلبث الى الابد سيداً أبداً على مصيره وان لا يجبن.
سئل:
"كيف تريد ان تُقتَل؟"
فقال
في تصميم وعزم: "اسقوني خمراً وافصدوني".
فسقي
خمراً وقطع وريده وهو يبتسم. وتسيل دماؤه الحارة، وهو ينظر في سكون واطمئنان ويبكي
الناس حوله فلا يذرف دمعة. وينشد شيئا من الشعر دون أن يرتعش صوته، وتمر عليه خلجة
الموت وكأنه في حلم ذهبي جميل.
(1950)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق