20.2.14

القومية والحرية

جميل حمودي


كثيرا ما يرتبط مفهوم القومية بالحرية الى حد يصعب فيه تمييز العلاقة بين ما يفهم من القومية وما تعنيه الحرية. ويرجع هذا الارتباط الى ظهور الحركات التحررية في الشعوب المستعبدة وكفاحها من اجل الاستقلال. وقد اطلق الاوروبيون لفظة "القومية" حديثا على النزعة الثورية التي تتجلى في كفاح هذه الشعوب، ومن ثم كانت القومية والوطنية و"مظاهر النضال الثوري" تشير الى معنى واحد هو يقظة الشعوب والنضال من اجل الحرية.


ومثل هذا المعنى يحمل طابعا سياسيا واضحا يمكن ان يمثل احد جوانب القومية، لكنه لا يشير الى حقيقتها، لان القومية تبدو من خلاله شيئا سلبيا موقتا، أو وسيلة تستخدمها الشعوب للظفر بالحرية، وبذلك يمكن ان تبرر للاستعماريين مثلا نظرتهم الى القومية العربية. فهم يرونها نتيجة للاساليب العنيفة التي استخدمها المحتلون لاخضاع الشعب العربي، او نتيجة التصادم بين مصالح هذا الشعب ومصالح المستعمرين. وعلى ضوء هذه النظرة يرى الاستعماريون انه يمكن ان تكسر شوكة القومية العربية، او تمحى عندما يبدل الاستعمار من اساليبه، او يعترف بحقوق الشعب.

وكثيرا ما يقع العرب انفسهم بمثل هذا الخطأ عندما يعتبرون القومية العربية مجرد شعار للنضال لا اكثر، يرمي الى بعث الشعور القومي في نفوس الجماهير وتوحيد كفاحها ضد الاستعمار الاجنبي. وبذلك تكون القومية حادثا تاريخيا ليس له مضمون اجتماعي دائم، لآن هذا الكفاح هو مرحلة في حياة الشعب لا أكثر، على الرغم من أهميته وخطورته.

والواقع ان الجانب الآساسي من القومية هو ما تنطوي عليه من معاني الحرية بالنسبة للفرد والجماعة، والدور الذي يلعبه الوجدان القومي في النضال من أجل الحرية، هو آحد هذه المعاني، غير ان استقلال الأمة عن السيطرة الاجنبية هو وسيلة لتحقيق وحدتها القومية، واستكمال الشروط السياسية والاقتصادية والثقافية التي تتيح لها أن تنشىء حياتها الجديدة، وتعبر عما يكمن فيها من أصالة في جميع ميادين النشاط الانساني والانتاج. فهي بذلك وحده تستطيع أن تصنع مصيرها في التاريخ البشري. وبهذا فان الأمة الحرة هي التي تستطيع الافصاح عن حقيقتها وتمنح العالم وجهها الصحيح دون ان تلوث ملامحه اقنعة الدخلاء، وتحقيق الكيان القومي للامة هو الذي يضعها في هذا السبيل. والقومية على هذا النحو هي حرية الامة وكل ما هو إنساني في حياة شعب من الشعوب إنما يرجع الى تعلق الشعب بحريته في اختيار مصيره، إلى الاصالة القومية التي يتبنى فيها تاريخه ويضيف بذلك الى الانسانية معنى جديدا لحياة الانسان.

وتعبر الحرية ايضا عن علاقة الفرد بالامة. فالقومية هي تعبير حر عن اندماج الفرد في مصير امته، وذلك هو التحرر الحقيقي بالنسبة للفرد. فلكي يكون للانسان معنى في الحياة وجدارة يجب أن يكون حرا، وهذه الحرية في حقيقتها هي اكتشاف ما هو انساني أصيل في طبيعة الفرد، ما يمكن ان يكون حافزاَ  للاخوة والمحبة والدفاع عن الكرامة الانسانية والعمل المبدع. ولا سبيل للفرد أمام هذا التحرر الداخلي إلا في مشاركته العميقة بمصير الآخرين واالقومية هي التي تجعل هذه المشاركة ممارسة فعالة وحقيقة حي، ليس لآنها تمنح الفرد وسائل معينة أو تخلق الشروط والظروف التاريخية، بل لآنها تجعل حياتها بأسره تعبيرا عن شىء انساني عميق هو أصالة الامة وفعاليتها المبدعة.
إن الأفراد هم أحرار في كيان أمتهم، مستعبدون عندما تنعزل بهم الأنانية ويقعد بهم الضعف والانحلال عن العمل القومي، وبقدر ما يندمج الفرد بقوميته يكون إنسانا حرا.

(04 نيسان 1958)

ليست هناك تعليقات: