20.5.14

شاعرات أمام الموت

كثيرا ما تكون سنوات العمر كلها مجرد طريق الى وقفة شرف وكرامة تستهين بالموت


محمد راسم







    يقف الناس أبداً خاشعين أمام الموت، فمنذ أن بلغ الإنسان أجله يصبح موضع عظة وعبرة أبلغ ما فيهما أن الأحياء لا يستطيعون شيئا أمام هذا القدر المحتم. وقلما يشغلهم التفكير بمصير الإنسان بعد الموت، فهم يعلمون أن لا جدوى من ظلام القبر ولا جواب في سر الفناء. غير أنهم يتساءلون في كثير من التواضع والحكمة عما ترك الراحل من الأثر خلال حياته وماذا كان يعني وجوده على الأرض.
   ولم يكن العرب يرون في الرجل أفعاله وما أحدث بين الناس من مآثر تذكر فحسب، بل كانوا يطالبونه بموقف جريء أمام الموت، بأن يختار بملء حريته مصيرا بطوليا بتحدى به القدر ويضفي على سنة الحياة القاهرة شيئا من صنع الإنسان. وكثيرا ما تكون سنوات العمر كلها مجرد طريق الى وقفة شرف وكرامة تستهين بالموت وتجعله مصيراً حبيباً إلى النفس يتوج حياة الرجل الحر كما تتوج المواسم الثمار اليانعة.
    بمثل هذه الروح كانت المرأة العربية ترى في بطولة الرجل أمام الموت شيئا كبيرا في معنى حياته. وقلما يكون الرجل جديراً بدموع المرأة ورثائها إن لم يكن في نظرها صورة فذة للحرية والشجاعة. وهما يكن في حبها له من الحنان والعاطفة، فإن الموت يذيب كل عاطفة في هذا التساؤل: هل كان قوياً جديراً بالاحترام؟
    ومن ثم كانت مراثي الشاعرات عند العرب نوعاً من الوفاء الصادق للرجل الجدير، سواء أكان ابنا أم اباً أم زوجا أم أخا أم أحد الغرباء. وكن يتفاخرن بمثل هذا الوفاء ويبذلن له من العاطفة ما يجعل حياتهن بأسرها أحياناً حنيناً ولوعة.إنما التفاخر في الندب والبكاء من أجل المعنى القوي الذي انطوت عليه حياة الرجل وأفصح عنه موته الجري. إنه شعور المرأة بأن نموذجاً فذاً للحياة الإنسانية قد توارى من حياتها وكان كل ما في وجودها من مصدر للمنعة والكبرياء.

قالت زهراء الكلابية في رثاء زوجها:
وكنت أنام الليل من ثقتي به         وأعلم أن لا ضيمَ وهو صحيح
فأصبحت سالمة العدوَّ ولم أجد      من السلم بداً والفؤاد جريح

وقالت فاطمة بنت الأحجم في رثاء أخويها:
إخوتي ى تبعدوا أبداً        وبلى والله قد بَعِدوا
ولو تملّتهم عشيرتُهم       لاقتناء العز أو ولدوا
هان من بعض الرزيّة أو    هان من بعض الذي أجد

وقالت في رثاء زوجها
قد كنت لي جبلا ألوذُ بظله          فتركتني أضحي بأجرد ضاح
قد كنت ذا حمية مت عشت لي     أمشي البراز وكنت أنت جناحي
فاليوم أخضع للذليل وأتقي         منف وأدفع ظالمي بالراح
وكان الجميع قد قتلوا في الحرب في مجازفات جريئة:
رعوا من المجد أكنافا الى أمد           حتى إذا كملت أظماؤهم وردوا
ميتٌ بمصر وميتٌ بالعراق ومي...     تٌ بالحجاز منايا بينهم بدد

    وقلما كانت المرأة العربية تلجأ الى تحليل أحزانها وتصوير لوعتها. وإذا أباحت لتفسها شيئا من هذا القبيل فهي إنما تجد في الدموع إطاراً فحسب لصورة الإنسان القوي الذي غاب الى الأبد، كما لو أن الأحزان العميقة ليست إلا نداء إالى قوة الحياة الإنسانية وما فيها من روعة.

تقول أم خالد النميرية في رثاء بعض أقاربها وقد قتل بعيداً:
إذا ما أتتنا الريح نحو أرضه        أتتنا بريّاه فطاب هبوبها
أحنُّ لذكراه إذا ما ذكرته             وتنهل عبراتٌ تفيض غروبها
حنين أسير نازح شدَّ قيدُهُ           وإعوالُ نفس غاب عنها حبيبها

وقالت الخِرْنق أخت طرفة بن العبد:
لا يبعدَن قومي الذين هم           سمُّ العداة وآفة الجزر
النازلون بكل معترك                والطيبون معاقد الأرز
إن يشربوا يهبوا وإن يَذروا       يتواعظوا عن منطق الُهجر

   وقد عرفت الخنساء بلوعتها الباكية على أخيها صخر. غير أن ملامح الحياة الجريئة التي عاشها صخر وما فيها من كرم وقوة وبطولة تطغى على جميع أنحاء الخنساء وتجعل أشعارها الرقيقة تاريخاً حافلاً بمآثره وفضائله.
    وتلعب ساعة الموت دوراً هاماً في خيال الشاعرة العربية عند الرثاء. فعلي الرغم من أن المرأة تخضع لحكمة القدر بما فيها كبيعتها الانثوية من رقة وانفعال، فإن حادثة الموت بالنسبة للرجل تبدو لها نوعاً من البكولة. فالرجل القوي يستطيع أن يختار أن يجسد العنفوان الذي لا يتاح للمرأة أمام القدر.

قالت أم صريح الكندية في مصرع بعض ذويها:
ولما اكفهرت من عليهم سحابة        إذا برقت بالموت أمطرت الدما
أبوا أن يفروا والقنا في نحورهم       وأن يرتقوا من خشية الموت سلّما
ولو أنهم فروا لكانوا أعزة              ولكن رأوا صبراً على الموت أكرما

   وإذا كان في موت البطل ما يحزن في حياة المرأة فهو أن فقدانه يطوي نموذجا إنسانيا فذاً لا سبيل إالى مثله ولا تستطيع ان تفتديه بالموت حياة الآخرين. ذلك أنه يلبث في حياته وموته حادثة خارقة في حياة قومه. ومن أجل هذا فهو جدير بالرثاء. فقد كان شيئاً ثميناً لا غنى عنه في حياة الآخرين. وهذه النظرة تفصح عن ارتباط المرأة العربية بمصير قومها.

قالت أروى بنت حُباب في رثاء أبيها:
قل للارامل واليتامي قد ثوى             فلتبكِ أعينُها لموت حباب

وقالت تماضر بنت الشريد في رثاء ابنها وهو من بني عبس:
لئن حزنت بنو عبس عليه              فقد فقدت بنو عبس فتاها
فمن للضيف إن هبت شمالٌ             مزعزعة يجاوبها صداها؟

   وبهذه الروح كانت الدعوة الى الثأر مما يلهب خيال المرأة العربية عندما تندب قتيلاً في قومها.

تقول جليلة عندما علمت بمقتل زوجها كليب:
فهاكم حريق النار تبدي شرارها            فيقدح في كل البلاد سعيرها
فقوموا وداروا ما استطعتم وواقعوا       عسى يقشع الاظلام عنكم نورها

وقالت أم قرفة وقد قتل بنو قيس ابنها في حرب داحس وقبل أبوه بالدية:
حذيفةَ لاسلمت من الأعادي            ولا وقِّيت شرَّ النائبات
أيقتلُ قرفةً قيسٌ وترضى               بأنعام ونوق سارحات؟
فخذ ثأرا بأجراف العوالي              وبالبيض الحداد المرهفات
وإلا خلِّني أبكي نهاري                 وليلي بالدموع الجاريات

وقالت هند بنت حذيفة وقد قتل بنو عقيل ابنها:
فإن أنتم لم تصبحوا القومَ غارةً      يحدِّث عنها وارد بعد صادر
وترموا عقيلا بالتي ليس بعدها      بقاء فكونوا كالاماء العوائر

   ذلك ان الذي يمضي في قوة وعنفوان هو الأحسن أبدا في نظر المرأة لآنه أعطى حياته في سخاء ولم يعرف الضعف سبيلاً الى قلبه.

قالت صفية بنت عمرو في رثاء أخيها:
 كنا جميعاً كغصني بانة سمقا           حيناً على خير ما تنمي لها الشجرُ
 حتى إذا قيل قد طالت فروعهما        وطاب غرسهما واستوسق الثمرُ
 أخنى على واحد ريب الزمان وما      يبقي الزمانُ على شىء ولا يذرُ
كنا كأنجم ليل بينها قمرٌ                   يجلو الدجى فهو من بيننا القمرُ

(كل الشاعرات اللواتي وردن في النص عشن في العصر الجاهلي او صدر الاسلام)

ليست هناك تعليقات: