"منذ أيام وأنا في عزلة صامتة.
تطل غرفتي على هضاب من الثلوج البيضاء، يخيل الي أنه لا نهاية الى الأفق البعيد الأغبر، حيث ترتفع أغصان الحور الداكنة بفروعها الرشيقة.
منذ يومين والثلوج تتساقط في صمت كئيب، والسماء غائمة ترسل بين الحين والأخر موجة من الضباب تحتل كل آفاق المدينة، وتدفن البيوت النائية بغمرة من النثار الرمادي لا سبيل إلى وصفه الا بأنه يمكن أن يكون صورة للحزن العميق في مشاعر الأطفال. الأطفال يحبون الغيوم المتقطعة البيضاء التي تزحف في زرقة الفضاء واحدة تلو الأخرى، بذلك يستطيعون أن يعتبروها من أصدقائهم وأن يناجوها كما يناجون النجوم والأزهار، مثلما يفعل الشاعر.
في كل عزلة من هذا القبيل، أعود إلى مشاعر الماضي وألغي كل شئ آخر فيه.. الحوادث والصور والأشخاص والأشياء.. أحاول أن أستعيد جميع العواطف التي عرفتها وجميع الاحساسات. وهناك احساسات عابرة في الماضي البعيد ألقيت بها في كهوف النسيان، وظننت أنها تلاشت إلى الأبد، فإذا بها تبعثُ من جديدمنذ أن توجهت بهذا النداء، كما لو أنها مختبئة وراء ضجيج الانفعالات الآنية.
شعور غريب بأن ينبغي أن لا تدين المجرم مثلا، مهما تكن جريمته منافية للحس الأخلاقي، أو مؤذية للمجتمع، بل أن ما يدان به هو العمل الذي قام به. لماذا يعاقبُ الانسان من اجل نزوة عابرة؟ لكن ما العمل إذا كان الحقوقيون الذين يضعون قوانين القضاء لم يجدوا حلاً سليماً لهذه المشكلة؟
وهذا التساؤل صدر أيضا عن أبي... خلال الأحاديث الهادئة التي كان يثير مواضيعها بنفسه، في سهرات الشتاء الوادعة. ان مثل هذه الذكريات هي مثار عديب للمشاعر المختبئة. في ليالي الشتاء كان ينقل حزمة صغيرة من الحطب إلى غرفة الجلوس في منزلنا الصغير، ويضعها في موقد جانبي، ثم ينضدها بالشاكل الذي أحرق فيه جيرودو برنو ودتن دارك، ثم يوقد النار. ورغم الدخان المتصاعد في أرجاء الغرفة، كنت أتأمل وجهه الممتلئ لوبنه الناضر، وقد امتدت فيه عروف أرجوانية واضحة، وقد بقي فيها هكذا حتى بعد موته، وعينيه الزرقاوين في صفاء البحر أيام الصيف ولحيته البيضاء المرسلة حتى الصدر...
كان يقتضب العبارات في حديثه وتتألق عيناه بهدوء نقي يوحي إلي بأن أبي اما أنه لا يملك الكثير من الأشياء ما يضيف على أحاديه، أو أنه يملك الكثير من الأسرار التي ينبغي ألا يعرفها الآخرون... والأرجح هو الافتراض الأول. ذلك أن أبي كان عدواً للتكتم طوال حياته... كان يعتبر أن الاحجام عن قول الحقيقة نوعاً من الكذب، مهما تكن هذه الحقيقة.
كان يقول: لا تكذب لكن لا تتبرع بنشر الفضائح لا لأنها يجب ألا تنشر، بل لأنه قد يكون ما فيها غير صحيح أحياناً... وهذا هو الخطأ... لم تكن تعنيه الفضائح - كان يدعوها أخطاء البشر - لأنه - كما قلنا - كان حريصاً على أن لا يدين أصحابها إدانة نهائية...
ولكنني ابتعدت كثيراً عن أبي. لا يجوز أن يبحث أمره في مثل هذه السطور الوجيزة... هذا ما أشعر به وأراه جديراً بالاهتمام...
أبي صفحة البراءة في حياة البشرية... هذا هو عنوان المقال الأول الذي نشرته في إحدى صحف المدينة، وما أزال أفخر باسمي الذي كان توقيعا لعدة آسطر كتبتها من أجله"
(أوراق متناثرة)
تطل غرفتي على هضاب من الثلوج البيضاء، يخيل الي أنه لا نهاية الى الأفق البعيد الأغبر، حيث ترتفع أغصان الحور الداكنة بفروعها الرشيقة.
منذ يومين والثلوج تتساقط في صمت كئيب، والسماء غائمة ترسل بين الحين والأخر موجة من الضباب تحتل كل آفاق المدينة، وتدفن البيوت النائية بغمرة من النثار الرمادي لا سبيل إلى وصفه الا بأنه يمكن أن يكون صورة للحزن العميق في مشاعر الأطفال. الأطفال يحبون الغيوم المتقطعة البيضاء التي تزحف في زرقة الفضاء واحدة تلو الأخرى، بذلك يستطيعون أن يعتبروها من أصدقائهم وأن يناجوها كما يناجون النجوم والأزهار، مثلما يفعل الشاعر.
في كل عزلة من هذا القبيل، أعود إلى مشاعر الماضي وألغي كل شئ آخر فيه.. الحوادث والصور والأشخاص والأشياء.. أحاول أن أستعيد جميع العواطف التي عرفتها وجميع الاحساسات. وهناك احساسات عابرة في الماضي البعيد ألقيت بها في كهوف النسيان، وظننت أنها تلاشت إلى الأبد، فإذا بها تبعثُ من جديدمنذ أن توجهت بهذا النداء، كما لو أنها مختبئة وراء ضجيج الانفعالات الآنية.
شعور غريب بأن ينبغي أن لا تدين المجرم مثلا، مهما تكن جريمته منافية للحس الأخلاقي، أو مؤذية للمجتمع، بل أن ما يدان به هو العمل الذي قام به. لماذا يعاقبُ الانسان من اجل نزوة عابرة؟ لكن ما العمل إذا كان الحقوقيون الذين يضعون قوانين القضاء لم يجدوا حلاً سليماً لهذه المشكلة؟
وهذا التساؤل صدر أيضا عن أبي... خلال الأحاديث الهادئة التي كان يثير مواضيعها بنفسه، في سهرات الشتاء الوادعة. ان مثل هذه الذكريات هي مثار عديب للمشاعر المختبئة. في ليالي الشتاء كان ينقل حزمة صغيرة من الحطب إلى غرفة الجلوس في منزلنا الصغير، ويضعها في موقد جانبي، ثم ينضدها بالشاكل الذي أحرق فيه جيرودو برنو ودتن دارك، ثم يوقد النار. ورغم الدخان المتصاعد في أرجاء الغرفة، كنت أتأمل وجهه الممتلئ لوبنه الناضر، وقد امتدت فيه عروف أرجوانية واضحة، وقد بقي فيها هكذا حتى بعد موته، وعينيه الزرقاوين في صفاء البحر أيام الصيف ولحيته البيضاء المرسلة حتى الصدر...
كان يقتضب العبارات في حديثه وتتألق عيناه بهدوء نقي يوحي إلي بأن أبي اما أنه لا يملك الكثير من الأشياء ما يضيف على أحاديه، أو أنه يملك الكثير من الأسرار التي ينبغي ألا يعرفها الآخرون... والأرجح هو الافتراض الأول. ذلك أن أبي كان عدواً للتكتم طوال حياته... كان يعتبر أن الاحجام عن قول الحقيقة نوعاً من الكذب، مهما تكن هذه الحقيقة.
كان يقول: لا تكذب لكن لا تتبرع بنشر الفضائح لا لأنها يجب ألا تنشر، بل لأنه قد يكون ما فيها غير صحيح أحياناً... وهذا هو الخطأ... لم تكن تعنيه الفضائح - كان يدعوها أخطاء البشر - لأنه - كما قلنا - كان حريصاً على أن لا يدين أصحابها إدانة نهائية...
ولكنني ابتعدت كثيراً عن أبي. لا يجوز أن يبحث أمره في مثل هذه السطور الوجيزة... هذا ما أشعر به وأراه جديراً بالاهتمام...
أبي صفحة البراءة في حياة البشرية... هذا هو عنوان المقال الأول الذي نشرته في إحدى صحف المدينة، وما أزال أفخر باسمي الذي كان توقيعا لعدة آسطر كتبتها من أجله"
(أوراق متناثرة)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق