17.6.14

مشكلة الفكر الديني



سعيد آيت يوسف




     تثار مشكلة الفكر الديني في السنوات الاخيرة على نحو يلفت النظر. وعلى الرغم من أن اليقظة الحديثة في المجتمع العربي قد انطلقت من تنبه الفكر الديني في اواخر القرن الماضي (التاسع عشر) فإن كثيرا من المثقفين ما يزالون يجدون في هذه البداية محاذير كثيرة تلعب دورا اساسيا في تفاعل الحياة العربية والحضارة الحديثة.



     وفي طليعة هذه المحاذير ان الدين كان متحفظا في الأخذ بأسباب الحضارة وأن كثيرا من رجال الدين أخذوا موقفا التزمت والرفض أمام كل تجديد يمكن ان تحمله روح العصر الى المجتمع االعربي. والحقيقة ان الجماهير العربية – هي التي توصف بالتحفظ في هذا المجال – كانت في كل حين تتجاوز كل موقف سلبي من الحضارة، وكانت تجد في دعوات الاصلاح المختلفة تعبيرا عن جدارة القيم الدينية في استعادة النموذج الانساني المكافح الذي يستطيع ان يعيد شيئا من الثقة بما ورثته الحياة العربية من الماضي البعيد، من القيم الخلقية التي تتيح لها الانعتاق من ميراث عصور الانحطاط: البؤس والتخاذل والتردي الخلقي والاذعان. 

    كانت هذه الجماهير تعاني أزمة التناقض بين ايمانها العميق بان الدين هو في طبيعته قوة ثورية تحفز الى التمرد على الواقع والتطلع الى حضارة جديدة – كما كان شأنه في الماضي – وبين أن تراه "أداة" في ايدي السلطة أو ذوي النفوذ، إما ان يستخدم لتخدير العقول وعزلها عن رؤية الأسباب الحقيقية لمأسي الواقع ومفاسده، أو تحويل النفوس عن "الحياة" وترويضها على الإذعان "الصوفي" في انتظار الخلاص الذي يحمله الموت في النهاية، وإما أن يستخدم في شعارات لفظية مثيرة تقاوم الحضارة والحياة الجديدة.

     وقد حملت دعوة الاصلاح الديني لدى محمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي شيئا من من هذا التجاوز في اصرارهما على الربط بين تعاليم الدين الحقة والواقع الجماهيري. 
   
     فقد اشار محمد عبده في ردوده على (المفكر والمستشرق الفرنسي ارنست) رينان (1823-1892) و(السياسي والمؤرخ الفرنسي غابرييل) هانوتو (1853-1844) دفاعاً عن الاسلام، الى انه لا بد من تكوين عقلية جديدة وخلق متحرر يعيدان الى المعتقد الديني صلته بالواقع. يقول "لا يمكن للانسان ان يعمل بمصلحة العامة ما لم يحس برابطة بينه وبينهم".

     ويقول ان "بلادنا ليست بلاد الجوع القتال ولا بلاد البرد القارس المميت ولا بلاد الشقاء التي لا ينال الانسان فيها قوت يومه الا بالعذاب الاليم. بل نحن بلاد رزقها الله سعة في العيش ومنحها خصوبة وغنى يسهلان على كل عائش فيها قطع ايام الحياة بالراحة والسعة. ولكن ويا للاسف منيت باشد ضروب الفقر: فقر العقول والتربية".

    وحين يتناول مشكلة المرأة – وقد كانت موضع صراع عنيف في الفكر الديني – يقول "ان النساء قد شرب بينهن وبين العلم بما يجب عليهن في دينهن ودنياهن بستار لا يُدرى متى يًرفع".

    وبهذه الروح كان عبد الرحمن الكواكبي يؤكد على الطابع القومي في حركة الاصلاح – وهو من ابرز التفاعل مع التجربة الجماهيرية – فهو يرى ان الدعوة قد قامت على العرب، ومن ثم فانهم حماتها قبل كل شىء، ولا سبيل الى تحرير العقلية الدينية مما يدعوه بالخرافات والاوهام التي لحقت بالاسلام الا بالعودة الى نشأة الدين في مرجعه الصريح: القرآن. وكثيراً ما كان يربط بين الاستبداد وبين الخروج على صراحة التعاليم الدينية ومحاولة استغلالها للابقاء على الفساد او كما يقول "بقصد الاستعانة بالدين او باهل الدين على ظلم المساكين".
   
    وكان يلح على ان هذه التعاليم تدعو الى الايمان بالقانون سواء كان نظاما طبيعيا تخضع له الكائنات أو أوامر خلقية ينبغي ان تتحكم بسلوك الانسان. ومن أجل الحفاظ على القيم الخلقية تبنى الكواكبي موقف الجماهير من الانسياق الاعمى مع ما يمكن ان تفضي اليه الحضارة الغربية من ضياع الشخصية والتحلل الخلقي وهو ما تعانيه الفئات التي تتنكر لقضايا الامة في كل جيل.

    يقول في كتابه ام القرى "وأما الناشئة المتفرنجة فلا خير فيهم آنفسهم فضلا على ان ينفعوا أقوامهم وأوطانهم وذلك لان لا اخلاق لهم تتجاذبهم الاهواء كيفما شاءت، لا يتبعون مسلكا ولا يسيرون على نظام مطّرد".

ليست هناك تعليقات: