4.7.17

وهم الحقيقة

     يبدو الفكر العربي المعاصر لأول وهلة، فريسة صراع عنيف من أجل الحقيقة. ففي كل مناسبة تتعدد وجهات النظر وتتضارب ويبرز التباين بين الآراء على نحو عنيف يوحي بان العقول تعمل أكثر مما ينبغي، وأن ما يعانيه الفكر من التوتر والاضطراب يدل على تعلقه الشديد بالحقيقة، والتضحية بكل اطمئنان ذهني من أجلها، وكثيراً ما يوصف في هذا السبيل بالوعي الثوري أو الريبة المطلقة، أو التحرر الحاسم وما إلى ذلك من المميزات التي تشير إلى فعالية خارقة في الفكر تفسح المجال لهذه العبارة الدارجة: "لقد أصبحت لكل نظريته الخاصة وحقيقته".

     وليس ما هو أكثر خطأ من هذا الزعم. فالفكر العربي ما يزال في مرحلة الانسياق الجماعي والركود. ذلك أن تباين الآراء في أي مجتمع لا يصدر إلا عن روح نقدية نامية. ومثل هذه الروح ترتبط دائماً بنوع من الجرأة يقدم بها الفكر على إدانة جميع المسلمات المتوارثة للوصول إلى الحقيقة. وهي الإدانة الضرورية لكل يقين تصبح فيه الحقيقة شيئا من كيان الانسان يلزمه بالمواقف العملية الصادرة عما يؤمن به. ذلك ما تفتقر إليه تجارب الفكر العربي المعاصر.

     فمهما تتباين مستويات التفكير، من العقلية الساذجة عند رجل الشارع إلى البحث المنهجي عند رجل الفكر، تلوح في البداية بعض المسلمات اليقينية التي تصدر عنها جميع وجهات النظر، وهذه المسلمات هي ثمرة العقلية الجماعية المستقرة التي ورثها الفرد، عن وعي أو غير وعي، وتوهم أنها الحقيقة التي أفضت إليها تجربته الفكرية المتحررة.

      وهو ما يبدو على نحو واضح في التجانس الغريب الذي يتسم به إطار التفكير مع تباين المضمون فيه. الحقيقة في البدء لا في النهاية.

      لنأخذ الفكر الاجتماعي مثلاً منذ اوائل هذا القرن، وقد تفرعت عنه مذاهب شتى كان لها أثر كبير في التوجيه السياسي والأخلاقي للجماعات. إن هذا الفكر يبدأ بمسلمة يقينية لا تمتد إليها التساؤلات المريبة ولا ينالها النقد، هي أن الماضي هو الصفحة المشرقة من حياة الجماعات التي يضمها الوطن العربي، وأن هذا الماضي ما يزال يعيش في النفوس ويرسل شعاعه الأزلي من خلال الامكانيات الضخمة التي تنذر بالانبعاث من جديد. وسواء تمثل هذا الماضي "الحي" في روح الحضارات القديمة كالفينيقية والبابلية والفرعونية، أو مثلَّه العنفوان العربي العريق، أو أشارت إليه القيم الروحية التي عبر عنها "الشرق" بصورة عامة في مراحل مجيدة من تاريخ الانسانية توجتها المسيحية ووثبة الاسلام، سواء كان في الماضي أيا من هذه الحقائق العظيمة، فانه في اعتقاد الجميع نقطة الانطلاق الوحيدة في جميع الاتجاهات الاجتماعية التي يتوجه بها الفكر إلى الواقع، ويمثل بها الصراع العقائدي الذي يعتبره الجميع مظهراً لنزعة التقدم والتغيير في المجتمع العربي.

      ولكن نظرة أولى إلى هذه الدعامة التي ينطلق منها الفكر، تكشف لنا عن الوهم الكبير الذي يشترك فيه الجميع، على الرغم من اختلاف وجهات النظر والاتجاهات العقائدية. إنهم يبدأون من تصور للحقيقة لا وجود له في الواقع الذي يحياه الناس. فالانسان الذي أنشأ مصيراً حضارياً مبدعاً في الماضي، وهو رصيد المذاهب الاجتماعية الراهنة، ليس في الواقع الحي إلا أمنية تخامر النفوس المتطلعة إلى حياة جديدة. وسواء كان هذا الانسان مغامراً فينيقياً أو مشرعاً بابلياً أو عالماً مصرياً أو فارساً جاهلياً أو مسيحياً يبشر برسالة الروح، أو مجاهداً مسلماً يغزو العالم، فإنه في الواقع العربي المعاصر نموذج للكائن البشري المعذب الذي يسحقه شقاء الحياة والقلق على المصير، ويجلله عار الرضوخ للارادات الاجنبية.

       والفاجع أن الفكر ينساق مع هذا الوهم في كثير من الادعاء والضجيج. وكثيراً ما يمتد هذا الوهم إلى الروح الموضوعية ذاتها. فعلى الرغم من أن الموضوعية تمثل مظهر الاستجابة للروح العلمية والعقلية الحديثة، فإنها تحمل أوهامها في كثير من القلق والالتباس. ذلك أن الحياد الذي تتذرع به الموضوعية أمام القضايا الانسانية التي يعرضها الواقع العربي، يعتبر في الواقع موقفاً عقلياً هادئاً، موقف الانسان الذي ينسحب إلى الرصيف ويرفض الالتزام إلا بما يبدو له من مظاهر الحقيقة الراهنة.

        وباسم هذا الحياد، كانت معظم أشكال التخلي والانهزام. ذلك أن الموضوعية - التي هي دعامة الموقف العلمي - لا تنسحب على الواقع الحي إلا حين تلتزم هذا الواقع بجميع مبرراته ومتناقضاته لكي تحدد الشروط الممكنة لبناء الحياة الجديدة، ولذا فهي تبدأ بالتزام المصير البشري، ومن دون ذلك لا تكون إلا ذريعة كاذبة لتبرير التنصل والفرار أمام المأساة.

(العرب وتجربة المأساة)

      

ليست هناك تعليقات: