هذه هي الشعارات التي يطوَّق بها "الأديب" التقليدي من كل جانب، ومن خلالها يفرض عليه أن يجد نفسه في محنة الانعزال عن عصره، وأن يعترف بأنه سجين ماضيه، الذي يتمثل بلفظية الأداء تارة، أو تكرار التجربة تارة أخرى والسطحية في معظم الأحيان.
ومهما تكن من مسوغات لمثل هذه الاتهامات، فان أزمة الاغتراب هذه ليست إلا وهماً، ذلك أن المنحى التقليدي في الأدي ليس مرحلة معينة، بل إنه واقع ثقافي دائم في التجربة الأدبية لكل أمة، يمكن ان يعبر عن أصالتها في كل مرحلة. ومثلما يكون الخروج عليه مشروعا باسم التجديد والابتكار، فإنه يملك هو أيضاً شرعية وجوده واستمراره ومقدرته على الخلق والإبداع.
وإذا كان في حرارة الحياة المعاصرة، وازدحامها بالتناقضات، وعمقها، ما يسوغ خلق إيقاعات جديدة للقصيدة أو صيغ غير مألوفة للأداء القصصي أو المسرحي، فإن فيها أيضا متسعاً حتى لبنية القصيدة الجاهلية والسرد القصصي الساذج أو المسرح الخطابي، وغير ذلك مما يبدو غريباً على التجربة الأدبية عند كل جيل ناشئ.
وعلى الرغم من أن روح "الحداثة" أو "المعاصرة" تمنح الأجيال الجديدة مزيدا من الثقة بقدرتها على التجديد في العمل الأدبي، من ناحيتي المضمون والأداء معاً، فان التناقضات التي تعانيها هذه الاجيال في تجربتها الفنية لا تقل خطورة عما يعانيه الجيل التقليدي. فهي، مثل هذا الجيل، تفرض عليها أزمة اغتراب مصطنعة من قبل الجمهور والنقاد معاً، في حين تبدو أزمتها على نحو آخر. إنها ترفض الاعتراف بالتقصير في امتلاك اللغة والبيان، بل كثيرا ما تتعند تحدي التراث بما تفترض أنه من القوالب الجديدة في أشكال الأداء، أو المعاني العميقة في معاناة التجربة الإنسانية. كما أنها كثيراً ما تجد نفسها أيضا ق حل من التزام القضايا الأساسية في الواقع الذي تحياه الجماهير من أجل ما تدعوه بصدق التجربة الذاتية وحرارة الإخلاص لروح العصر.
غير أن جميع مواقف الرفض هذه لا تمنحها التحرر من حس الاغتراب والضياع، ليس في علاقة عملها بالجمهور والحياة المعاصرة فحسب، بل في ارتباطها هي أيضاُ بالتجربة الفنية ذاتها. وفي ذلك تكمن أزمتها الحقيقية، مظاهر الحياة والقوة وأعراض الارتباك والمرض في آن واحد.
إن من أبرز ملامح القوة والتجديد، في محاولات الأجيال الناشئة أنها تقتحم حياتنا الأدبية في هذا التساؤل الصارم: لماذا الأدب والفن في حياتنا المعاصرة؟ لماذا هذا الانعطاف الحاسم في بنية القصيدة وشكل القصة أو الرواية؟ وإلى أي حد ينبغي ان يكون دليلاً على الإيمان بأنه أصبح للكلمة دورها الفعال في حياة المجتمع ومصائر الآخرين؟
("حول أزمة الاغتراب في تجربة الأديب العربي المعاصر"، مقالات أدبية، 1971)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق