11.10.16

حين اقتحم الإنسانُ المعاصر عالم الفضاء....

البرت شفايتسر
   حين اقتحم الإنسانُ المعاصر عالم الفضاء بفضل التقدم العلمي الخارق، أثيرت لدى الجميع مشكلة فلسفية خطيرة، بقيت تتردد في أدهان العالم منذ أقدم العصور، هي مكانة الإنسان في العالم.


    ومع أن هذه المشكلة كانت حافزاً للفكر البشري في جميع الآفاق التي ارتادها منذ أجيال وأجيال، فاستوعبتها المعتقدات الدينية تارة، وصدرت عنها الاساطير تارة أخرى، وكانت أغنى ينابيع الإلهام الشعري في معظم الأحيان، ومن اعمق حوافز الاكتشاف العلمي في أحيان أخر، مع هذا كله، فإنها - والانسان قيد خطوات من القمر - تأخذ طابعاً جديداً قلما أتيح لها في الأزمان الغابرة.

   وإذا كان الناس قد تساءلوا من خلالها: من هو الانسان في هذا العالم اللامتناهي؟ ما منشؤه وما مصيره؟، فان القضية الاكثر جدية في هذا المجال تكمن في هذا السؤال: ما معنى وجود الانسان في هذا العالم؟ وماهي جدارته الخلقية؟

   وإذا كانت الاكتشافات العلمية الرائعة قد اتاحت للكثيرين أن يجدوا الجواب في صورة الانسان الذكي المغامر الذي يستطيع أن يستخدم كل شىء لكي يتحقق ما يحلم به وما يريده من اتشاف المجهول والسيطرة على الطبيعة، فان صورة الانسان البدائي الذي يحاول أن يتحرر من أوهامه ويلتمس دعامة لآخلاقية لوجوده على الارض، ما تال تمثل قضية الانسان ذاته.

    ومن خلال هذا التناقض تبدو الفجوات الحزينة التي ما تزال تثقل وجدان الانسان المعاصر، حين يبدو الجوع وهو يكتسح حشوداً هائلة من جماهير لا نهاية لها في العالم الثالث، مثلما يبدو الظلم في أعنف صوره وهو يطبق بمآسيه المظلمة على العديد من الشعوب في آرجاء العالم، ويغلق أمام الجميع كل أبواب المستقبل "الافضل" الذي تبشر به الانسانية بين حين وآخر.

   ليس من السهل على ثائر مغامر في أفريقيا وأميركا اللاتينية، أو فدائي جريء في فلسطين او محارب مرَّ في فيتنام، أن يقنع نفسه بأن صفحة تاريخية من تفوق الانسان على الكون تفتح في الوصول إلى القمر، وهو يعيش كل يوم تجربة الطغيان والقمع في ظل نفس الحضارة التي أتاح لها التقدم العلمي جميع وسائل التدمير، مثلما اباح لها التردي الأخلاقي في الحياة السياسية كل وسائل الكذب والإرهاب والتنكيل.

   حين عاد الدكتور ألبرت شفايتسر (1) لأول مرة من أفريقيا حيث كرَّس سنوات طويلة من حياته للعناية بالمرضى ومشاكل القبائل البدائية، سُئِل عن مبررات التضحية الانسانية الفذة التي يقوم بها هناك، فأجاب "نحن جميعاً من العصر الذي نعيش فيه، ولن تكون لهذا العصر حضارة وطيدة إذا لم يقدَّر لكل واحد من أبنائه أن يكون نداً للجميع أمام العالم، مسؤولاً عن جميع المصائر".


(1) البرت شفايتسر (1875-1965): طبيب وعالم لاهوت وموسيقى وفيلسوف فرنسي ألماني، منح جائزة نوبل للسلام في 1952 تقديرا لكتابه "تحية الى الحياة"، لكنه عرف خصوصا بالمستشفى الذي يحمل اسمه واقامه لامباريني في الغابون.

ليست هناك تعليقات: