عبد المنان الشما |
إن من أولى المسلمات في الحياة الأدبية أن يكون الأثر الأدبي لدى الكاتب تعبيراً عن رؤية متميزة إلى العالم. وسواء كانت هذه الرؤية ذات طابع جماعي كما هي الحال في الشعر الجاهلي مثلاً، او كانت ثمرة للتجربة الخاصة في الحياة الفنية للكاتب، فان الحد الأدنى مما يطالب به الأديب "الحق" أن يمثل شخصية فنية متماسكة، تبرز ملامحها في كل أثر من آثاره وتحمل الى الآخرين شيئا من إيحاء التجربة الإنسانية التي عاناها في حرارة وصدق.
وليس من الضروري أن يكون الأديب عبقرية فذة أو عملاقا ليتاح له هذا الايحاء، كما أنه ليس من الضروري أيضا أن يكون القارئ العادي ذا حساسية مرهفة في النقد، لكي يتلمس فيما يقرأ عالماً جديداً توحي به الكلمات ما يفتقر إلى التعبير عنه في تجربة الحياة. غير أنه لا بد من أن يمنحه الأثر الأدبي منذ البداية "شعوراً" بأن وراء هذه الكلمات "شخصية فنية كاملة" تريد أن تكون شيئا "صادقاً" وهي تملك القدرة على أن تقول.
وعلى الرغم من أن الجمهور قلما يطمح إلى أكثر من هذا في ارتباطه بالانتاج الأدبي منذ بداية النهضة الحديثة، فان النقاد كانوا يلحون باستمرار على "تتويج" الشعراء والكتاب منذ أن كانوا يعقدون إمارة الشعر لهذا أو ذاك، إلى أن وجدوا في تطلعات الأجيال "الحديثة" من الكتاب المعاصرين، نماذج قادرة على "مواكبة" التيارات الجديدة الفذة في الأدب العالمي المعاصر.
إن التضليل الذي يمارسه النقد الأدبي في هذا المجال يفرض على الذوق الجماهيري صورة سلبية للخرافة. ففي الخرافة - كما هو معروف - تهيمن قوة عليا فوق طاقة البشر وعوامل الواقع، على عقول الناس، وتشعرهم بأن المنجزات الإنسانية - سواء كانت في نطاق الأدب والفن أو العمل السياسي والحضاري.. ألخ - إنما تصدر عن فعالية خارقة لا سبيل ألى فهمها أو تحديد أبعادها. والصورة الإيجابية للخرافة هي التي تصدر عن تحليل الواقع، واكتشاف العلاقات التي توهم بأن مظاهر الإبداع فيه ليست إلا ثمرة لتجاوز القدرة "العادية" التي تتاح للإنسان حين "يصنع" شيئا جديداً. ففي العلم مثلا، كان تحليل الوسائل المادية في الطبيعة والتحكم بالعلاقات فيما بينها وسيلة لصنع الأدوات التي تحقق من سيادة الإنسان على الكبيعة ما تعجز عنه طاقة الإنسان المباشرة.
واذا كان العلم في ارتباطه بالواقع لم يفسح مجالاً واسعاً لنشوء ما يمكن أن يدعى بخرافة "التفوق" البشري الذي يمثله "العالم"، ومن ثم انطوت صفحة "السحر" في هذا المجال، فإن التحليل والاكتشاف في الأثر الأدبي أو الفني يفضيان في الغالب إلى شئ أسطوري في "الشخصية الأدبية" أو "الفنية". وعلى هذا النحو كانت هيمنة المتنبي والبحتري وأبي تمام مثلاً خلال العصور، كلما ازداد الجمهور معرفة بمقدرتهم تافذة على استخدام البيان في التعبير، ازداد وثوقاً بأنهم نماذج خارقة في الأداء الشعري، وهو ما ينطبق على كل شاعر أصيل أو فنان مبدع مهما تكن مرتبته في تاريخ الأدب والفن.
غير أن الصورة السلبية للخرافة تأخذ السبيل المناقض. إنها تبدأ ينوع من الوهم أشبه بالسحر القديم. تفرض القوة الخارقة اولاً، "الشخصية الأصيلة"، ثم يحاول الآخرون أن يلتمسوا لها الدعائم والمبررات، وهو الدور السئ الذي لعبه النقاد والكتا على السواء في تجربة الجمهور. فليس من الصعب ان نكتشف منذ القراءة الاولى لكل أشعار أحمد شوقي وحافز ابراهيم والأجيال التقليدية المماثلة التي تعاقبت بعدهما حتى الآن أننا أمام قصائد متناثرة يحاول بها البيان العربي أن يستعيد شيئا من الصحة والقوة بعد مراحل طويلة من المرض والضعف حملتها عصور الانحطاط. وعبثا نتلمس في هذه المحاولات "تجربة شاعر معاصر" أو نؤلف منها شخصية فنان أصيل يحمل رؤية جديدة إلى العالم تعبر عن معانانة التجارب الإنسانية في حياة عربي القرن العشرين - إذا صح التعبير - ومع هذا، فان النقاد كانوا يلوحون دائما بوجود "التجربة" و"الشخصية" معاً، متأثرين في ذلك تارة بنمادج الشعراء القدامى، وتارة أخرى بالنماذج الحديثة للشعر العالمي.
("الحس الجماهيري ورياء النقد الأدبي"، مقالات أدبية، 1971)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق