5.8.15

الانسان والقدر

الشاعر الألماني فريدريش شيلر

     يعرض الشاعر الالماني شيلر في مسرحيته "والنشتاين" صور قائد جبار يقوم في أمد قصير بأعمال عظيمة باهرة ويشتهر ببطولته في أصقاع أوروبا، وتتجلى في أعماله الارادة الانسانية وجمال القيام بالواجب، ثم ينزع به الطموح الى الملك فيقدم على خيانة امبراطوره بالتآمر مع اعدائه، فتتحول تلك الارادة الجبارة الى ضعف وخوف وتستحيل عزيمته الى اضطراب وتردد قلق لآنه يحس ان انسانيته قد انحرفت عن طريقها السوي، ويلجأ الى التماس المعونة من الاقدار ومن رصد الافلاك، في كل خطوة يخطوها في مؤامرته، ويستمر في اضطرابه الى ان يقتل.

     وتصور هذه المأساة قصة الانسان الذي يستطيع ان يتغلب على الظروف ويوجه مصيره ومصير الكثيرين، ويخلق قدرا لنفسه ما دام مخلصا لنزعاته الانسانية ساعياً الى الخير. ويلبث هذا القدر خاضعا للانسان حتى تلك اللحظة التي تنحرف فيها انسانيته ويفكر بالاساءة الى الناس، بالاساءة الى الاخلاق التي وجدت لصيانة الانسان والتقدم به. وقد ظهرت هذه الاساءة في والنشتاين في "الاقدام على الخيانة والتأمر"، ومنذ أن يبدأ هذا الانحراف ويتجه هذا الانسان اتجاها خاطئاً يكافحه قدره نفسه ويجعله نهبة للتخاذل والقل، وتصبح إنسانيته أضعف من القدر الذي خلقته.
     واذا كانت مشكلة الانسان في عصر شيلر مشكلة صراع بين الانسان والقدر، ذلك الانسان الرومانتيكي القلق على مصيره، المستغرق في عالم شعري مسحور من العاطفة، وذلك القدر الذي يتمثل في اضطراب المجتمع في ذلك العصر، في كوارث الحروب، وشقاء الجماهير، وسيطرة الطغاة والمستبدين على مقدرات الناس، اذا كانت هذه مشكلة الانسان اذ ذاك، فان مشكلة الانسان في هذا العصر ى تختلف مطلقا في جوهرها عن تلك، على الرغم من شدة تعقيدها وكثرة ما تعانيه من اضطراب وتوزع.
     فالانسان الحديث لا يزال اقوى منه في كل زمن، ولا يزال قادرا على ان يخلق قدرا لنفسه وان يتحكم بمصيره، يعد ان طلع لنفسه على الارض بهذه الحضارة الانسانية الراقية التي تتقدم باستمرار، وتقدم للعقل البشري كل حقبة إكليلا من الغار، وهي تدل بوضوح على أن الانسان لا يزال سيداً على الطبيعة، ولا تزال إرادته أقوى موجة للتاريخ.
     واذا ما ظهرت الانسانية اليوم في هذه الصورة المطلمة المروعة، فان ذلك لا يرجع ابداً الى انحدار الانسان وضعفه امام اقدار خارجية... بل يرجع الى اننا لا نرى الانسان على الاطلاق في هذه الصورة، بل نرى الاقدار وحدها تتعثر في الزمن، بائسة كئيبة قاتمة، وقد ابتعد عنها عنصر الانسانية الاصيل وجوهرها المتفائل المشرق.
     وهذا الانفصال المؤلم بين الانسان والقدر هو نقطة البدء في المأساة التي يعانيها العالم اليوم، وهو يرجع الى ان الاتجاه الانساني الذي بدأ منذ مطلع العصور الحديثة في أول خطوة خطتها نهضة العالم من ظلمة القرون الاولى لم يتم ولم يستمر. ذلك الاتجاه الذي خلق تراثاً انسانياً نبيلاً من الانبياء والعلماء والفنانين والقلاسفة والمصلحين وجميعهم كانوا يقدمون تجارب عميقة للانسان، تجارب تستطيع ان تخط الطريق امام كل كاين بشري ليسيطر على نفسه، ويخلق قدره، ويوجه مصيره، ويوجه بذلك التاريخ.
     إن ابتعاد الانسان عن هذا الاتجاه خلق مشكلة العصر الذي نعيش فيه. ويبدو هذا في وضوح عندما نلمس ذلك العداء الحاقد بين الانسان وبين ما يحيط به. فالفرد الآن عدو للمجتمع الذي يشكل قدراً دخيلاً. والامة في هذا الوهم تحمل الحروب والنكبات للانسانية. والانسان نفسه عدو للانسانية، لانه لا يستطيع ان ينال حقوقه في الحياة إلا إذا خضب الانسانية بالدم. ذلك لآن الخضوع "لما هو كائن" هو "أخلاق" العصر الحاضر.
     وهذا الابتعاد جعل الفرد يخوض أشد الحروب هولا وهو يكره الحرب من صميمه، وجعل الفنان مثلاً يتبنى مأساة عصره وهو أكثر الناس تمرداً على عصره.
     وثمة صورة أكثر تعبيرا عن مأساة تراجع الانسان عن ان يتجه اتجاهه الصحيح ويخلق قدره بنفسه، هي صورة ذلك النزاع المستمر بين الانسان والآلة، وبين العلم والدين، وبين الأخلاق والسياسة وما إلى ذلك. فالآلة والعلم والسياسة مثلا تمثل في هذا العصر قدراً مخيفاً يحاول به أن يستعبد الانسان العدد الاكبر من المجموعة الانسانية مع ان هذا الثالوث في الواقع ليس الا جزءاً يسيراً من عمل الانسان، وطريقاً عبده بارادته وعزيمته ومواهبه ليسير الى حياة أكثر خصوبة وتقدماً ورقياً.
     وما على الانسان المعاصر إلا أن يعرف أنه سيد قدره وأنه يستطيع أن يخلق حياة جديدة، وأن يضع أخلاقا أكثر حياة وجمالاً في كل حين، إذا ما أتم ذلك الاتجاه الانساني الذي أطلع فجره الاجداد منذ أقدم العصور، ذلك الاتجاه الذي يؤمن قبل كل شىء بعظمة الانسان وقدسية إرادته وقدرته على خلق مصيره.

(1948)

ليست هناك تعليقات: