31.3.15

الحنين الى الماضي

أبو صبحي التيناوي


   إن الحنين الى الماضي نزعة أصيلة في طبيعة الشعوب. فما من شعب يستطيع الاستغناء عن ماضيه، عن المصادر الاولى التي يستمد منها تقاليده وعناصر ثقافته ويتلمس فيها ملامح شخصيته، ولا يتبين الشعب حقيقته إلا من خلال تجاربه الماضية.

   والمألوف ان يلتفت الشعب الى الماضي عندما تقفر أمامه سبل الحاضر وتثقل حياته الكوارث والاحزان، فيرى في الأيام الغابرة صورة للبساطة والصفاء والحياة الجميلة، شأنه في ذلك شأن الشيوخ الذين يستمدون من ذكريات الطفولة والشباب ما ينضر جفاف الهرم بشىء من الحرارة والحياة.  
   غير أن الشعب العربي كان في جميع مراحل حياته كثير الالتفات الى ماضيه، ولا يرجع ذلك الى روعة التراث العربي بمقدار ما يرجع الى تعلق العرب بقوميتهم وايمانهم بان الماضي يحمل عناير حية يمكن ان تعيش في الحاضر كل حين وتبعث فيه القوى والأمل.
   فعندما ثار الاسلام على الجاهلية لم يتخل عن الفضائل العربية التي حملها العرب في ذلك الماضي السحيق، بل إنه بعث في الخلق العربي هذه الفضائل واعتمد عليها في تأدية رسالته. لقد كانت الحياة القوية والصدق في الكفاح والبطولة، شعاراً للعرب في ذلك الحين.
   يقول النبي العربي "أفضل الجهاد من لا يهم بظلمه أحد" و"السيوف أردية المجاهدين. لقد كان الاسلام ثورة على أخطاء الماضي وإحياء لعناصر القوة فيه. وكان المشركون في نظر الدعوة أناسا أصروا على الأخطاء وتنكروا للحياة العربية الجديدة التي قدر للعرب فيها أن يحملوا مصيرا إنسانيا عظيما لا حدود لمراميه. ولم يتخل العرب عن إيمانهم بان الجهاد في سبيل المثل الأعلى هو كل ما في وجودهم من معنى. وكانت أخوة الكفاح هي الرابطة المتينة التي يعبر بها العربي عن إيمانه بأمته وتعلقه بقوميته، ومن دون ذلك يعتبر دخيلاً. يقول النبي "ليس منا من عمل بسنة غيرنا".
   وعندما أتيح للعرب بناء الدولة وإنشاء الحضارة، أصبح الماضي ينبوعا خصبا لثقافة الشعب وحافزا لثقته بنفسه. لقد فتحت الحضارة العربية ذراعيها لجميع الشعوب وشتى الثقافات، وخلقت في كل مكان بيئة صالحة للانتاج والابداع، ولكنها لم تنس ماضيها. فقد بقيت البادية المدرسة الاولى للشعر والبيان، وبقي الخلفاء يهتدون بمآثر الأسلاف. والثورات العربية العديدة التي عرفها التاريخ العربي وأعلنت فيها الجماهير تمردها على الفقر والتفاوت الطبقي، أو على اضطهاد الحكام الاقدمين وفساد الدولة، كانت تضع نصب أعينها عنفوان الماضي وعدالة الأقدمين.
   لقد كان يخيل للعرب أن ماضيهم ينطوي على كل ما هو إنساني أصيل في طبيعتهم، ويرون في مآثره أنفسهم على حقيقتها، ويعتبرون الحاضر المثقل بالآلام والمفاسد صورة مشوهة عنهم  وشيئا دخيلا على حياته. وكان الشعور القومي وحده مصدراً لهذه النظرة التي احتفظ بها الشعب العربي خلال عصور الانحطاط.
   ومن ثم أصبح الحنين الى الماضي تعبيراً عن العجز وجنوحاً إلى الفرار من الواقع، لأن العرب في هذه العصور لم يستطيعوا ان يستمدوا من الماضي أسباب حياة جديدة ولم يروا فيه إلا صورته البراقة البعيدة، دون أن يحاولوا اكتشافه في الحاضر الذي يحيونه، كما كان أجدادهم يفعلون في المرحلة المشرقة من تاريخهم.
   إن مثل هذا الاكتشاف هو ما يسمى بالبعث القومي. وما من شعب استطاع أن ينهض ويبني حضارة جديدة إلا بنوع من الانبعاث، يكتشف فيه ثقافته الاصيلة وطاقته الكامنة وما فيه من قدرة على الانتاج والتقدم. ولكي يتاح للشعب مثل هذا الانبعاث يجب ان يكون قادراً على فهم الماضي، على معرفة العناصر الانسانية القوية فيه، واكتشاف الاخطاء العميقة التي أدت الى ضموره وانهياره. وقد تلمس العرب في العصور الاخيرة فضائل ماضيهم دون أن يحاولوا تمييز أخطائه، وإذا تعرضوا لهذه الاخطاء كانوا يعتبرونها دخيلة على تاريخهم، وينسبونها الى الغرباء تارة، والى الاقدار القاهرة تارة أخرى. لذلك لم يعمدوا إلى تصحيحها والثورة عليها، لأنهم لم يروا أنفسهم مسؤولين عنها، وذلك هو منطق التأخر والانحطاط في تاريخ الشعب العربي، المنطق الذي ادى الى انعزال الشعب قروناً طوالاً منذ انهيار الحضارة العربية، وجعل الاستسلام لمفاسد الواقع شعاراً له في كل حين.
   وقد بدأت اليقظة العربية في مطلع هذا القرن بنظرة جديدة الى الماضي العربي، بدأت ببعث التراث الثقافي، وهو من العناصر الانسانية الحية في الحضارة العربية. وقد تناول العرب المعاصرون هذا التراث في كثير من الدهشة والاعجاب، ولكنهم لم يستطيعوا فهم التجارب الانسانية التي انطوى عليها لآنهم لم يستطيعوا استجلاء الصلة العميقة التي تربطهم به، صلة الاحساس المشترك بالحياة والنظرة الموحدة الى قضايا الانسان.
   فنحن مثلاً لا نرى اليوم من طرفة أكثر من شاعر شاب، أحب الحياة في حرارة وعنف وتحدى الموت في بطولة من اجل الكرامة. والحقيقة ان هذا الشاعر يحمل لنا شيئا آخر غير القصائد الجميلة التي عبر بها عن تجربته. إنه يعيش في ضمير كل عربي فتي نزعة الى الحياة الفرحة الغنية والحرية. ولا نعرف عن البحتري إلا انه شاعر عذب البيان عاش في أعتاب الملوك، مع ان حقيقة البحتري هي تجربته الفنية. كيف استطاع ان ينقل احساسة بالاشياء الى عبارة جزلة وايقاع جميل. وهي تجربة تعيش في حياة كل عربي اليوم وكل إنسان. كيف نحس الجمال قيما يحيط بنا من أشياء. وقد كان التزلف من أخطاء البحتري كما كانت الفردية الصارمة من أخطاء طرفة وقد فرضتها عليهما الظروف الاجتماعية.
   وعندما ننظر الى الماضين من خلال اخطائهم، نجد الهوة السحيقة التي تفصلنا عنهم في حين نجدهم في أعماق نفوسنا عندما نفهم هذه الاخطاء ونتجاوز حدودها الى ما هو انساني حي في تجاربهم، وذلك هو السبيل الوحيد لان يكون الماضي جانيا اصيلا من حياتنا القومية وحافزا للتحرر من أخطاء الحاضر، وللاستمرار في حياة انسانية متجددة تزدهر فيها الامة العربية بمظاهر القوة والجمال.
   وعلى هذا النحو أيضا يفسر خطأ العرب المعاصرين في اعتقادهم أن الماضي يمكن أن يبعث بتقاليده ومظاهره. فما نسميه بعث التقاليد العربية لا يعني العودة الى الماضي العربي بمقدار ما يعني استدعاء الماضي بقوته وعنفوانه الى الحاضر الذي نحياه وجعله نقظة انطلاق أصيلة لحياتنا الجديدة.
   ان التقاليد العربية هي مواقف انسانية حية تتجدد باستمرار وموقف امام المال عبرت عنه الامة بالكرم والسخاء وموقف امام العبودية عبرت عنه بالنضال والثورة، وموقف امام الموت عبرت عنه بالبطولة وما الى ذلك. وكل ما في هذه التقاليد من قوة هي انها اساليب تعبر عن وجهة نظر الامة. وتستطيع الامة أن تعبر باساليب جديدة عن وجهة نظرها في الحياة.
   وإن البعث الذي تنطوي عليه القومية العربية في هذا العصر هو ايمان العرب الراسخ بان ما تحمله الامة العربية في الماضي والحاضر من نظرة انسانية يمكن ان يرتاد في كل مرحلة من مراحل التاريخ البشري آفاق الحضارة.
    إن حنين الامة العربية الى الماضي هو التفاتة الى الينبوع، يتعلم منها العرب المعنى الحقيقي لانتفاضة شعب، أن يكون الماضي نداءً حاراً الى التحرر والحياة القوية.
(1958)

ليست هناك تعليقات: