17.10.14

في البدء كانت الاسطورة

"في البدء كانت الاسطورة والاسطورة كانت الانسان"

جمال السجيني
     في البدء كانت الاسطورة والاسطورة لم تكن خيالا او وهما، بل كانت تعبيرا عن حاجة عميقة في نفس الانسان، إلى أن يتجاوز حدود الواقع الذي يعيش فيه ويبني حياة جديدة له أكثر امتلاء وحرارة وقوة، وإذا ما أتيح للشعراء وحدهم أن يغنوا الاساطير ويلونوا بغنى نفوسهم وخصب خيالهم صورها، فان الاسطورة نشأت مع الشعب لانها كانت صورة لرغبة إنسانية أصيلة في نفوس الجماهير، في أن يتحرروا من القيود التي تفرضها عليهم ضرورات الحياة ويرتادوا آفاقا جديدة تسبغ على وجودهم لوناً ذهبياً جديراً بأن يكون الطابع الجميل لما يسمونه هبة الحياة.
    والشعب في أغلب الأحيان يعيش في عالمين متميزين لا يلتقيان. أحدهما واقع الحياة وهو عالم التجربة والمعاناة، عالم المحراث والآلة، الآلام والأفراح، عالم الوجود المزدحم بكل ما تحمل لفظة الوجود من معنى، والثاني هو الاسطورة، وهو العالم الذي يرمم فيه الخيال المبدع جميع نقائض الوجود، وجوداً آخر مليئا بالمعجزة واللامعقول.
    وقد اعتاد الناس أن ينظروا الى عالم الاسطورة على أنه نتيجة التأمل والاستغراق، وأن ينسبوه إلى عدد قليل في الشعب من التائهين في أودية الخيال. واعتبروه بذلك ضرباً من العزوف من الحياة وتعبيراً عن الفشل فيها. والحقيقة هي أن الاسطورة كالفن ثمرة يانعة من ثمار التجربة وشىء هو من طبيعة الوجود الإنساني، لأن أولى صفات هذا الوجود أن الانسان كائن قدر له أن يبدع وأن يتخطى الحدود التي رسمتها له الطبيعة، ويضيف الى العالم "الشيء الجديد" الذي يهذب العالم ويجعل لوجوده معنى ويجعل من تطور الحياة تقدماً في طريق الأحسن والأجمل، لا مجرد تبدل وتغير.
     هذا الشيء الجديد هو العنصر الإنساني الطليق الذي يدعوه الفلاسفة "الإرادة" أو "الحرية" أو "الفكر" أو "العاطفة" كل حسب فلسفته، وهو بذاته واحد لا يتغير. إنه شعورنا العميق بأن فينا ينبوعاً لا ينضب من ألوان الحياة، وصور الوجود، نستطيع أن نجدد منها باستمرار عالم الواقع ونغنيه، وبكلمة واحدة، إنه تعبير عن أنه لا حدود للإنسان، وأن وجوده الراهن مهما يكن غنياً، ليس إلا شاطئاً صغيراً من خضم لا نهاية له هو قواه الكامنة. وذلك وحده هو الذي أعطى الإنسان هذا الطابع العريق من القدسية فكانت في الأخلاق فكرة "الكرامة الإنسانية" وفي الدين فكرة الخلود وفي الفلسفة فكرة المطلق الذي أتيح للإنسان وحده أن يتوجه الى الله.
     ومن هذا الينبوع تستقي الأسطورة وجودها ونشأتها، وفي ظله ينمو الفن الحقيقي، وهو الذي جعل الأسطورة منذ أقدم العصور نوعاً من الفن الأصيل في حياة الشعب، يحمل الشيء الكثير من عقليته ونزعاته ومراميه. وإذا كانت صفة الفن أن يبعث في النفس الشعور باللانهاية، لأنها تعبير عن اللامعقول، عن الشيء الذي تعجز عنه الحياة الراهنة ولكنه يعيش في الانسان ويفرض نفسه.
    على هذا النحو كانت آلهة الإغريق القدماء، أصدق تعبير عن طموح الشعب اليوناني العريق، وقد قدرت له يقظة الفكر وحضارة الحياة أن يجعل من المعجزة شيئا ممكنا في الحياة الراهنة. فكانت الاسطورة اليونانية تحمل هذا الطموح في تلك العصور العجيبة التي تخيلت بها العقلية اليونانية آلهتها. يتمثل ذلك قبل كل شيء في خلود الآلهة. والخلود هو الصورة المطلقة للحياة والتعبير الشعبي الأقوى عن التعلق بها والتمتع بجمالها وروعتها. والآلهة اليونانية تمتاز عن البشر بالخلود ولكنها تشترك معهم في أشياء كثيرة. فهي صورتهم المثلى التي تعبر عن أمنيتهم في الوجود وعن عقليتهم وطبيعة هذه العقلية. فجوبيتر منذ أخضع آلهة الارض أصبح القوة المطلقة في الوجود. فوهب نبتون سلطان البحار وبلوتون السيطرة على الجحيم وهيمن هو على الأرض والسماء. وهيمنة جوبيتر والآلهة الآخرون على العالم ليست مجرد قصة خرافية لإرضاء الخيال الإغريقي بمقدار ما هي ترجمة حية للعقلية التي تتصف بالروح الرياضية المنظمة، هذه الروح التي تطمح الى اكتشاف كل ما في العالم من أسرار وربطها بالمعقول والواضح. بذلك كان جوبيتر  سيدا على عناصر الأرض والسماء يعرف مساربها وخفاياها، ويبعث بها الرعب والدمار في كل مكان. وكان نبتون وهو على عرشه في أغوار المحيطات يقود من مركبته الذهبية أمواج البحار ويلهمها الهدير والايقاع. وكان "بان" وهو إله المراعي والقطعان، يجوب بجسم نصفه آدمي ونصفه ماعز، الوديان والحقول حاملاً قيثارته الشعرية ليشرف على الأنسام وسكناتها وينظم رقصان العرائس وأناشيد الرعيان. لقد كان في الأسطورة اليونانية الكل الأعظم والروح الشاملة التي تشرف على كل شيء وتحيط بأرجاء العالم.
     هذا الطابع نراه بشكل أوضح في الفلسفة اليونانية التي كانت تستقي هي أيضا من روح الشعب طابعها القومي. فكانت مذاهب الفلاسفة بصورة عامة تجريداً عقلياً متقناً لروح الأسطورة وكان المعقول هو القدرة العظمى التي بيدها الوجود بأسره.
     والأسطورة العربية في العصر الجاهلي كانت تحمل على قلتها، ذلك المعنى الأصيل للأسطورة. قثد كانت أسبه بوجهة نظر في الحياة يضفي عليها خيال الشعب وأوهامه طابعا من الشعر والفن. ولكن المعنى اتلحقيقي لها لم يكن إلا كونها تعبيرا عن تلك النزعة الطبيعية في الإنسان نحو اللانهائي. وإذا كان قد أتيح لليونان جوٌّ من الحضارة والرقيُّ المادي جعل أساطيرهم موشاة بالألوان الشعرية المترفة، فإن الأسطورة عند العرب كانت مجرد تصوير لأسلوب تنزع إليه الفطرة العربية، وإيماءة إلى طريق تود الانطلاق فيه. فآلهة العرب الجاهليين هي رموز لا أكثر لقيم حية كان يسعى العربي بفطرته إلى تحقيقها. فثم إله للكرم وأخر للحب ولآخر للحرب، لم يكن لها من شأن في حياة العربي اذ ذاك إلا ما تلهمه إياه من جموح وعنف في تحقيق هذه القيم. وإذا كان لنا أن نعبر عن هذا الجموح بكلمة، كانت العنفوان، أي التوتر الدائم الذي لا يعرف الركون والاستقرار ولا يؤمن بالواقع إلا كمرحلة بسيطة لما هو خارق عجيب...
   وقد نسج العرب أساطير كثيرة حول أفراد من الشعب اشتهروا بهذا العنفوان فذكروا ربيعة بن المكدم وهو شاب لم يبلغ العشرين من عمره، عرف في حياته بالشجاعة والإقدام والاستهانة بالموت. وكان ذكر اسمه في كل موقعة كفيلاً بالظفر. ويروى أنه تغلَّب بمفرده على قبيلة بأسرها وحمى قافلة لبني قومه وهو ميت. وعندما قتب أصبح نجمة في السماء ترمز الى البطولة. والبطولة في قصته هي الشجاعة التي لا تعرف حدوداً، هي رغبة العربي في تحدي الموت.
     ونسج العرب أسطورة حول كرم حاتم الطائي ، فكانت روحه تنهض من القبر في كل مساء، فتأتي بالإبل بقوة سحرية وتنحرها وتوقد النار، وتهيء القرى للشاردين عبر الصحراء. بذلك رمز العرب إالى النفس الإنسانية بينبوع خالد من العطاء والبذل. ومن أساطير الحب القديمة أسطورة أساف ونائلة، وهي قصة الحب الذي لا موضوع له إلا ذاته. وتتلخص بأن يلتقي أساف وهو فارس معروف في قبيلة عربية معروفة، بنائلة وهي فتاة جميلة من إحدى قبائل اليمن، وينشأ بينهما حب خارق من دون أن يتعارفا وليس بينهما إلا لمحة عابرة أثناء الطواف حول الكعبة. وتمر الأيام وإذا بهذه العاطفة قد التهمت وجودهما بأسره وفجرت في نفسيهما ينابيع من الغبطة الإلهية أغنتهما عن جميع مسرات العالم. ولكنهما يلتقيان في إحدى سنوات الطواف ولا سملكان نفسيهما عن العناق، فتحيلهما الآلهة الى حجارة. وترمز الاسطورة الى أن اللعنة قد حلت عليهما منذ ان جعلا الحب وسيلة لأي شيء آخر سواه. وهذا المفهوم الأسطوري عن الحب يلبث خلال فترة طويلة تعبيرا عن جانت من فهم الشعب العربي للعاطفة الحقيقية التي هي غاية ذاتها ويبدو في تلك الأقاصيص الغريبة عن حب العذريين فيما بعد، وعن النزعات الصوفية في العصور المتأخرة.
     ومنذ أن ألقى الدين طابع القدسية على عالم "المطلق" الذي هو الله، محيت الأسطورة من الوجود الإنساني ليحل محلها شيء آخر هو المعجزة. ذلك ان فكرة القدسية وضعت حداً نهائياً بين واقع الحياة وصورتها المثلى التي ضمها الدين نهائيا إلى عالم آخر مقدس هو الله. وهو يرمز أبداً إالى أن حياة الإنسان على الأرض ليست إلا نضالاً لا سكون له ولا نهاية لأن ما يسعى إليه لا سبيل إلى بلوغه. فالمعجزة ملك السماء وحدها. ولكن الأسطورة تلبث حية في وجود الناس معبرة عن هذه الصيرورة الدائمة، هذا السعي المفتوح الذراعين إلى تأكيد كبيعة الإنسان العميقة  التي يعبر عنها تمرده الدائم على ضرورات الواقع وقيوده.
     فالأسطورة تعيش في كل مكان لأنها حقيقة واقعة لا خيال واهم. في الكوخ تعيش أسطورة القصر وتعبر عن تمرد الكبيعة الإنسانية  على القدر التي كبلها بقيود الفقر، وفي صحارى الحرمان تعيش أساطير خارقة عن الحياة والغبطة والامتلاء. وبين سلاسل العبودية والخنوع ترفرف أسطورة الانطلاق والحرية معبرة عن إيمان عميق بأن طبيعة الإنسان الحية، لن تخونه. وفي حضيض الكراهية والرياء والرجس، تنمو أساطير الطهارة والحب والصدق، كما تنمو الازهار الجميلة في مستنقع آسن، وفي كل زاوية من زوايا الحياة مهما تكن غنية ةجميلة، تتردد الى الأبد، اساطير جديدة حاملة معها آفاق حياة أجمل وأروع.
   في البدء كانت الأسطورة والأسطورة كانت الإنسان عصباً ودماً قبل أن يكون خيالاً وفكراُ. إنه اللهفة الطاغية إلى التحرر والانعتاق من كل ما هو استسلام لواقع الحياة وخضوع للقدر والمعقول. إنه نضال حار ومعاناة عميقة من أجل امتلاك الحياة، مليئة زاخرة بالابداع والحب لكني تكون مرحلة في الطريق إلى امتلاك وجود إنساني طليق لا نهاية لغبطته ولا نضوب لينابيع الحرية والجمال فيه، ذلك وحده هو التعبير الصحيح لوجود الأسطورة في حياتنا، ومن دون ذلك يفقد الإنسان أثمن ما يتصف به.. يفقد كونه إنساناً حراً...

(1952)

ليست هناك تعليقات: