27.7.14

أين أمضي..

    
فوزي شتيوي

 
"أين أمضي ولم يعد ثم مكان يلجأ اليه القلب الحزين؟ الامطار تنهمر في سيول من الكآبة والغيوم الصم تلف الآفاق، والشارع صامت مقفر. وضوء باهت حائر يمسح بأنامل من الضباب وجوه الجدران.. واللغو الباطل يتردد في كل مكان..
     في المدينة الكبرى لا يؤمن الناس ولا يحبون بل يتقنون العبث والاكاذيب.
     يا ليل الصقيع كيف تمتد الى القلوب الحارة في الشارع العريض وكيف تخرس همسات الشفاه! كن حيواناً أعجم يسعى الى الدفء والطعام.. تلك هي حكمة الشتاء العقيم في المدينة الكبرى.
     أتيت من الريف.. من مدينة صغيرة في الشمال ليس فيها من العظمة إلا أطلال الحضارات القديمة وروعة الطبيعة.. في الغرب مروج لا يفارقها النضار، ونهر أرعن يقتحم الحقول الى مغيب الشمس. وفي البعيد جبال زرقاء ترصعها الثلوج ويظللها السحاب الأنيق.. وأمام المشرق ينتصب الجبل الأخضر، تجرح صخوره الناتئة صدر السماء وبين شعابه الأدغال والأفاعي والفراشات الحمر بلون النار. ومن صخوره الزرق الصامتة صنعت السيول مجاريها الموحشة، وفي مغاوره القاتمة ترك الأقدمون بقايا من حياة مفعمة بالمسرات.
     ومن نهاية السفح تتحدث أكواخ المدينة عن الجوع والشقاء.
     صباح مشرق تزمجر فيه الرياح، وشمس بيضاء تتألق في الفضاء الأزرق وبقايا سحب ندية غبراء تندفع الى المشؤق.
     كان الليل ممطرا شديد الاعصار ولكن أوراق الشجر ما تزال عالقة بأغصانها الصفراء تنتظر في قلق مصيرها الحزين.
     والناس ينبعون من كل زاوية وباب، خطى مسرعة وأجساد حائرة يطاد يسحقها صقيع الشتاء ووجوه تتحرك فيها ذلة الانسان.
     وفي عرض الشارع هرة شقراء تلمس الارض الندية بخطوات هادئة وتنوء في سأم ثقيل والرياح القاسية عتبث بها وتكاد تنتهب شعرها  الناعم انتهابا.
     الصباح.. بداية العمل اليومي.. الجميع يمضون الى كل مكان حيث يحركون أفكارهم قليلا ويتثاءبون. كم في المدينة من بلادة وأحزان!
     لا شىء يبعث الحياة في الشارع العريض غبر الأطفال اللاعبين، يهرعون خلال الرياح العاصفة كاسراب من البط الأسود، في ايديهم حقائب صغيرة وعيونهم مشرقة ببراءة العصافير وعلى كل رصيف يصرخون..."

(اوراق متناثرة)

ليست هناك تعليقات: