في القرن الخامس
للميلاد، كانت الحرب شريعة بين العرب وكان حب الحرية طبعا فيهم وسببا لاكثر
حروبهم. وكانت الفروسية والشعر مما تتفاخر به القبائل في شبه الجزيرة وتتغنى به في
اقاصيصها. وكان ارتباط الافراد بقبيلتهم وحبهم لها تعبيراً عن شعورهم القومي لآن
القبيلة عندهم كانت صورة مصغرة عن الامة.
وكانت قبائل اليمن أكثر
اعتزازا بحريتها وكرامتها ومنها كانت قبيلة ربيعة. كان ملوك اليمن يخشون بأسها
ويتقربون إليها لكثرة ما ظهر فيها من الفرسان والشعراء المجيدين. وفيها نشأ
البرَّاق وتعد حياته نضالاً مستمراً في
سبيل كرامته وحرية قومه.
نشأ البرَّاق بن روحان
شاعراً في قبيلة ربيعة. وقضى ايام فتوته راعياً متغنياً بمفاخر قومه، متغزلا بابنة
عم له كان يحبها اسمها ليلى. وكانت ليلى فتاة شاعرة مشهورة في اليمن برقة عواطفها
وطيب نفسها وجمالها البارع، وكانت لها أشعار رقيقة تتغزل فيها بالبراق وتفتخر به
وبأشعاره. وكان ابوها لكيز بن أسد صديقاً حميماً لملك اليمن، يتردد على قصره كثيرا
فيلقى منه كل إكرام. وكثيراً ما كانت قبيلة ربيعة تشترك مع ملك اليمن في حروبه
بسبب هذه الصداقة.
ولكن هذه الصلات الطيبة
لا تلبث ان تجر كارثة للقبيلة.
ففي أحد الأيام، بينما
كان غرسان بن روحان وهو أخ للبرَّاق في زيارة عمه لكيز، تستوقفه ليلى وقد عراها
الشحوب وتقول له ان ابن ملك اليمن وهو عمرو بن ذي صهبان قد خطبها من أبيها وأن
أباها قد أجابه الى طلبه.
ويصدم غرسان بهذا النبأ
لآنه يعلم حب البراق لليلى ويعلم أن غضبه سيحدث انشقاقاً في القبيلة في وقت تهددها
فيه القبائل كل حين.
وتقول له ليلى: يجب ان
يعرف البرَّاق هذا قبل فوات الاوان. قل له ان يخطبني قبل ان يفاتحني أبي بالآمر.
فيذهب غرسان الى البراق
ويقول له بعد أن حدثه بالآمر: إن ليلى قلقة متألمة وتريد ان تخطبها من أبيها.
فيقول البرَّاق: لقد فات
الأوان يا غرسان، إن كرامتي تمنعني عن ذلك. لقد غرر بي لكيز وما أظنه إلا نادماً
على فعله. يجب ان نرحل، لم يعد ثمة مكان لنا في ربيعة. قل لعشيرتنا أن تتأهب،
فلسوف يعلم لكيز كيف تكون صداقة الملوك. إن لنا في البحرين أخوالاً ولن نلقى عندهم
إلا حسن الوفادة بعد أن خذلنا الأعمام.
فيهتف به غرسان: ولكن
ليلى تفضل الموت على أن تكون لغيرك، اذهب إليها يا برًّاق واعرف حقيقة الامر منها.
فيجيبه البرًّاق: لا مجال
للظن. إن الامر قد تم ولن يرجع لكيز عن رأيه. لن ترد ليلى طلباً لآبيها لآن دون
ذلك فضيحة وعارا لربيعة بأسرها.
وعندما ينبىء البرًّاق
ليلى بعزمه، تبكي وتودعه قائلة:
تزوًّد بنا زاداً فليس
براجع إلينا وصالٌ بعد هذا التقاطعِ
وكفكف بأطراف الوداع
تمنعاً جنونك من فيض الدموع الهوامع
وينتشر بين العرب أن
عشيرة البرًاق قد تخلت عن ربيعة وأن شقاقا دب في القبيلة فيطمع بذلك أعداؤها،
وتتحد قبيلة طيء وقضاعة وتشنان حربا شعواء عليها. فيجتمع أمراء القبيلة وينحون
باللائمة على لكيز لانه كان سببا لتضعضع القبيلة ورحيل البرًّاق بقومه. فيتألم
لكيز ويرسل لملك اليمن انه أجًّل زواج ابنته ليلى بسبب الحروب التي تعانيها
القبيلة.
وتستمر المعارك شهورا
طزالا تقاسي ربيعة منها الاهوال والكوارث الجسام ويأتي يوم تتألب فيه عليها
القبائل، فترى نفسها نهددة بالفناء فيذهب بعض رجالها الى البحرين كالبين من
البرًّاق الرجوع الى قومه ومساعدة القبيلة فيرضى.
كانت ليلى في ذلك الحين
تنظر الى ما حل بقومها بسببها وهي متألمة محطمة القلب. وكانت تنتظر عودة البرًّاق
يوماً بعد يوم. وكانت تسمع رجال القبيلة ونساءها يتهمون البرًّاق بالخيانة فتزداد
آلامها. وتقول في قصيدة ترد فيها التهم عن البرًّاق، منها:
برًّاق سيدنا وفارس
خيلنا وهو المطاعن في مضيق
الجحفل
وعماد هذا الحي في
مكروهه ومؤمًّل يرجوه كل
مؤمًّل
فيسمع بها البرَّاق
ويكون عنده جماعة من قبيلة طيء يقدمون اليه المال ويطلبون اليه الحرب معهم على أن
يجعلوه سيدا عليهم، فتتملكه غيرة على قومه ويرفض طلب طيء ويعزم على العودة.
لعمري لست أترك آلَ
قومي وأرحل عن فنائي وأسيرُ
بهم ذلي إذا ما كنت
فيهم على رغم العدى شرفٌ خطيرُ
أأنزل بينهم إن كان
يسرٌ وأرحل إن ألمَّ بهم عسيرُ؟
وأترك معشري وهم
اناسٌ لهم طولي على الدنيا تدورُ
فكُف الكَفِّ عن قومي
وذرهم فسوف يرى فعالَهم الضريرُ
ثم جهز عشيرته وانطلق
بها الى ربيعة.
وعندما وصل الى الحي
واستعاد فرسان القبيلة قوتهم، علم أن قبيلة طيء قد هاجمت جانباً من الحي وسبت بعض
نساء القبيلة وبينهم ليلى. فيشعل ذلك في نفسه ناراً من الإقدام والشجاعة.
لآفرجن اليوم كل الغمم
من سبيهم في الليل بيض
الحرم
صبرا الى ما ينظرون
مقدمي
إني أنا البرَّاق فوق
الأدهمِ
لآرجعن اليومَ ذات
المبسم
بنت لكيز الدائلي الأرقم
وما هي إلا ايام داميات
ملأى بالمعارك حتى يستكيع القضاء على طيء وينقذ أسرى قومه ويترك أعداءهم مشردين في
الصحراء.
وتبتسم الحياة للبرَّاق
فتنصبه القبيلة أميرا عليها وترسل إليه ليلى طالبة أن يخطبها من أبيها. لكن كرامته
تأبي عليه أن يفاتح عمه ثانية بهذا الامر إالى ان تقع حوادث مفاجئة يرجع فيها الى
قبيلة ربيعة عهد الاضطراب والنكبات، إذ يرسل ابن ملك اليمن الى لكيز طالبا منه
الوفاء بوعده بعد أن هدأت الحرب، وتزويجه فيدعو لكيز ابنته ويخبرها بذلك: اذكري يا
ليلى أن الوعد الذي يقطعه لكيز يجب ان يوفى به وأن كرامة القبيلة متعلقة بذلك، فهب
ترضين ان يسمنا الناس بالعار؟ وأنا قد وعدت أمير اليمن بك ولن أنكث بوعدي. لو كان
البرَّاق يريدك حقاً لطلبك مني وقد انتهى ما بيننا من خلاف.
فتصمت ليلى وتنصرف وهي
تذرف الدموع.
وبينما كان لكيز يعد
ابنته للذهاب يأتيه رسول من ملك الفرس ويقول له: إن كسرى سمع طويلا بجمال ابنته
ليلى وحسنها وهو يطلبها للزواج من أحد ابنائه، على أن يجعلها ملكة في بلاد العجم،
فيرفض لكيز ذلك ويقول للرسول: ان ليلى لا تتزوج الا من شعبها.
فغضب كسرى ويصعب عليه ان
يرفض رجل عربي طلبه وهو ملك ذو عرش وجاه عظيم، فيرسل جماعة يترصدون ليلى ويخطفونها
من إحدى القوافل الذاهبة الى اليمن.
فيسمع البرَّاق بذلك،
فيجمع قومه من جديد وتبدأ حرب ضروس لم تعرف ربيعة لها مثيلا. وتستمر الحرب اياما
يستبسل فيها فرسان القبيلة ويقتل عدد كبير منهم، ويقتل غرسان فيبكيه البرَّاق
طويلا:
ونادوا نداءً بالرحيل
فلم أطق
إياباً وصنوي
في المعارك فان
أآوي الى أهلي سليماً
مكرماَ
وغرسان مقتول
بدار هوان؟
وتسمع ليلى بمقتل غرسان
وهي في أسرها فتحزن حزنا شديدا وتبعث للبرَّاق بقصيدة في رثاء أخيه:
قد كان بي ما كفى من حزن
غرسان
والآن
قد زاد من همي وأحزاني
قد حال دوني با برَّاق
مجتهدا
من النوائب
جهدٌ ليس بالفاني
فلو تراني وأشواقي
تقلبني
عجبت برَّاق
من صبري وكتماني
ذلك انها كانت تعاني من
الاسر عذابا أليما وهواناً من الفرس. كانوا يحاولون إرغامها على الزواج من ابن
كسرى فترفض في إباء ورباطة جأش وتعنفهم. ويروى أنهم قيدوها بالسلاسل وضربوها لتذعن
ولكنها بقيت محتفظة بقوة نفسها، متعطشة الى الحرية التي اقنتها إياها القبيلة.
وترسل للبرَّاق قصيدتها
المشهرة التي ترددها اجواء الأثير حتى الآن:
ليت للبراق عينا
فترى ما أقاسي من بلاء
وعنا
عذبت أختكم يا
ويلكم بعذاب النكر
صبحا ومسا
يكذب الأعجم ما
يقربني ومعي بعض حساسات
الحيا
قيَّدوني، غللوني
وافعلوا كل ما شئتم جميعا
من بلا
فأنا كارهة بغيَكم وأمرُّ الموت عند قد حلا
فاصطبارا وعزاء
حسنا كل نصر بعد ضر يرتجى
يا بني تغلب سيروا
وانصروا وذروا الغفلة عنكم والكرى
واحذروا العار على
اعقابكم وعلكم ما بقيتم في الورى
وانتشرت هذه الصرخة عند
العرب فاجتمع عدد من القبائل حول ربيعة ورأوا ان من العار ان تستصرخهم فتاة فلا
ينقذونها.
وتجمع للبرَّاق جيش كبير
ولم يطق صبراً بعدما سمعه من أشعار ليلى، فاقتحم بقومه جيوش الفرس وشن حربا طويلة
توحدت فيها كلمة قبائل اليمن وأنزلت بجيوش الفرس هزمة منكرة.
وعاد البرَّاق بليلى
فزوجه لكيز بها بعد ما رآه منه. واشتهرت قصة أسرها وتمردها على العبودية، فردد
ذكراها الشعراء وضربت في الامثال وحفظ العرب أشعارها طوال قرون عديدة وعرفت في
تاريخهم باسم ليلى العفيفة.
(الينابيع)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق