![]() |
المؤرخ البريطاني ارنولد توينبي |
منذ عامين سئل المؤرخ (البريطاني) المعروف ارنولد توينبي (1889-1975): "لقد بنيت نظريتك في فلسفة التاريخ على ان الحضارات البشرية تنشأ جميعا عن التحدي، فهل ترى ان غزو الفضاء هو التحدي الاكبر الذي يعبر عن الحضارة في هذا العصر؟"
فأجاب:
"لا اعتقد بذلك. ان غزو الفضاء ليس ضرورة ملحة على الانسانية في حضارتنا. لان
الارض يمكن ان تُسكن أيضا مدة الفي مليون سنة أخرى. إن التحدي الحقيقي يتمثل في
مجابهة المشاكل الانسانية على الأرض. والمشكلة الاولى في نظري هي الجوع، ما دام
الملايين من البشر في آسيا وأفريقيا مثلاً يعيشون حياة دنيئة، فان التحدي الحضاري
ينبغي ان ينحصر في الجرأة على رؤية هذه الحقيقة".
وقد
أضاف توينبي منذ أيام، إثر الوصول إلى القمر، "ان التردي الأخلاقي في
العلاقات الانسانية اليوم هو ابرز مشكلة يثيرها هذا الحادث العلمي الخارق".
والواقع
ان الرأي العام العالمي لم يعن كثيرا بهذه الناحية إلا البلاد التي تعاني المزيد
من التناقضات الأليمة التي تنطوي عليها الحضارة الحديثة. لا لأن المنجزات العلمية
التي تتسم بها هذه الحضارة لم تطبع بعد حياة المجتمع في هذه البلاد، وفي ذلك ما
يشير الى بعض مظاهر التخلف فيها، بل لأنها تبرز جانباً اساسياً من صفة
"التخلف" أيضا في المجتمعات المتقدمة. وأخطر ما في هذه الصفة عجز
الانسان المعاصر عن تلافي الأخطاء
"الكبيرة" – على حد تعبير المؤرخين -.. الأخطاء التي تبدو بها
الكوارث والمأسي في حياة البشر من الأمور التي لا مفر منها.
إن
رجل الشارع العادي ليتساءل في كثير من القلق كيف يتاح للعقل البشري في عصر الفضاء،
ان يُحكِمَ خطوات الإنسان بين الأجرام
السماوية وعلى سطح القمر، ويعجز عن التقدم خطوةً واحدة في حل الأزمات السياسية
والاجتماعية!.. وكيف أن ازدهار الفكر العلمي بتطبيقاته الرائعة، قد اقترن منذ مطلع
هذا القرن، بهذه الظاهرة الغريبة: حتمية النتائج التي تسفر عنها الأخطاء في
القضايا الانسانية الكبرى... كما لو أن الانسان في المجتمع الصناعي قد فقد كل نزعة
الى مواقف المغامرة والبطولة، إلا موقف البحث والاكتشاف.
غير
ان النضال التحرري الجرىء الذي تخوضه شعوب العالم الثالث ما يزال يرمم الكثير من
المعنى الانساني للحضارة ذاتها،. إنه على الرغم من جميع شروطه القاسية، ما يزال
يعبر عن العنفوان الذي ينبغي ان يتذرع به رواد الحياة الجديدة في كل عصر وجيل،
سواء كانوا يهدفون الى تبديل الواقع الذي يعيشون فيه واغنائه بأسباب الحضارة
والتقدم أو كانوا يطمحون الى قيم أخلاقية جديدة تعيد الى الانسان حريته وكرامته.
(خاطرة - اذيعت في 24 حزيران 1971، المؤلفات
الكاملة، الجزء الرابع)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق